أحكام اللقطة

أحكام اللقطة

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

تعريف اللقطة:

اللقطة لغة تناول ما ليس محفوظاً، وشرعاً ما ضاع بسقوط أو غفلة1، وقيل: هي مال يوجد على الأرض، ولا يعرف له مالك، وهي على وزن الضحكة مبالغة في الفاعل، وهي لكونها مالاً مرغوباً فيه جعلت آخذاً مجازاً لكونها سبباً لأخذ من رآه2، وقيل: الشيء الذي تجده ملقى فتأخذه، وفي الجيولوجيا قطعة من الذهب ملء الكف أو أكبر توجد في المعدن3، واللقيط: هو الوليد الذي يوجد ملقى على الأرض.

أحكام اللقطة في الدين الإسلامي:

وحيث أن الدين الإسلامي كامل وشامل، وكل شيء قد بيُِّن فيه, فقد بَيَّن النبي – عليه الصلاة والسلام – الأحكام كلها، ومن ذلك أحكام اللقطة التي تختلف باختلاف المكان، فحكم اللقطة في سائر البلاد (عدا الحرم) أن يعرِّفها الملتقط سنة، ثم له الانتفاع بها كما دل عليه حديث زيد بن خالد – رضي الله عنه – قال: ((جاء رجل إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فسأله عن اللقطة؟ فقال: اعرف عفاصها ووكائها ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها، قال: فضالة الغنم؟ قال: هي لك أو لأخيك أو للذئب، قال: فضالة الإبل؟ قال: ما لك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر؛ حتى يلقاها ربه4)).

فهذا الحديث يبين حكم اللقطة إذا كانت في غير البلد الحرام، أما إن كانت في الحرم فإنها لا تحل إلا لمنشد لا لمتملك5، ومن أهل العلم من قال: هي كغيرها، ولكن يتأكد التعريف بها، وممن قال بذلك مالك، وأبوحينفة6، فقالوا: إن الأمر عام فيها وفي غيرها، وقالوا: وإنما جاء الحديث ((لا تحل لقطتها إلا لمنشد)) تأكيداً للإعلام لسنة اللقطة لكثرتها بمكة7، ورواية عن أحمد.

ومن أهل العلم من قال: لا يأخذها إلا من يعرفها أبداً لا ليمتلكها وهو قول الشافعي8، ورواية عن أحمد9، وقول عبدالرحمن بن مهدي، وكذلك لقطة الحرم المدني لا تحل إلا لمعرف.10

والقول الثاني هو الأرجح، لأن لقطة مكة والحرم لا يجوز التقاطها إلا لتعريفها أبداً بدون تملك بعد سنة أو سنين، وذلك أن سياق الحديث وهو قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرف11)) ورد مورد بيان الأحكام التي يختص بها الحرم من سائر البلاد كتحريم الصيد، وقطع الشجر، فإذا سوى بين لقطة الحرم وبين لقطة غيره من البلاد لم يعد لذكرها حكمة ظاهرة.

واختلف العلماء في اللقطة والضالة، وكان أبو عبيد القاسم بن سلام وجماعة من العلماء يفرقون بين اللقطة والضالة، قالوا: الضالة لا تكون إلا في الحيوان، واللقطة في غير الحيوان، قال أبو عبيد: إنما الضوال ما ضل بنفسه، وكان يقول: لا ينبغي لأحد أن يدع اللقطة، ولا يجوز لأحد أخذ الضالة، ويحتج12، واجمعوا أن اللقطة مالم تكن تافهاً يسيراً، أو شيئاً لا بقاء له؛ فإنها تعرف حولاً كاملاً.13

واتفق الفقهاء في الأمصار مالك، والثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، والليث، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبوعبيد، وأبوثور، وداود؛ أن يعرف اللقطة سنة كاملة له بعد تمام السنة أن يأكلها إن كان فقيراً، أو يتصدق بها، فإن جاء صاحبها وشاء أن يضمنه كان ذلك له14.

واختلفوا: هل للغني أن يأكلها ويستنفقها بعد الحول أم لا؟ فاستحب مالك للغني أن يتصدق بها، أو يحبسها، وإن أكلها ثم جاء صاحبها ضمنها، وقال أبو حنيفة – رحمه الله -: لا يأكلها الغني البتة بعد الحول، ويتصدق بها على كل حال، إلا أن يكون ذا حاجة إليها، وإنما يأكلها الفقير، فإن جاء صاحبها كان مخيراً على الفقير الأكل، وعلى الغني التصدق، وقال بهذا القول علي وابن عباس – رضي الله عنهما -، وسعيد بن المسيب، والحسن، والشعبي، وعكرمة، وطاوس، والثوري، والحسن بن حي.

وقال الأوزاعي – رحمه الله -: "إن كان مالاً كثيراً جعلها في بيت المال"، وقال الشافعي – رحمه الله -: "يأكل اللقطة الغني والفقير بعد الحول15"، وقال أيضاً: "يعرفها سنة، ثم يأكلها إن شاء موسراً كان أو معسراً، فإذا جاء صاحبها ضمنه، واستدل بحديث زيد بن خالد الجهني"166.

مكان وزمن التعريف:

ولقد ضبط العلماء المدة التي تعرف فيها اللقطة، وكذلك المكان الذي تعرف فيه، فأما مدة التعريف فيختلف قدر المدة لاختلاف قدر اللقطة إن كان شيئاً له قيمة تبلغ عشرة دراهم فصاعداً يعرفه حولاً، وإن كان شيئاً قيمة أقل من عشرة يعرفه أياماً على قدر ما يرى17.

وأما مكان تعريفها فالأسواق، وأبواب المساجد لأنها مجمع الناس وممرهم، فكان التعريف فيها أسرع إلى تشهير الخبر، ثم إذا عرفها فإن جاء صاحبها وأقام البينة أنها ملكه أخذها لقوله – عليه الصلاة والسلام -: ((من وجد عين ماله فهو أحق به18))19.

وقال الشافعي – رحمه الله -: يجب التعريف في لقطة الحرم إلى أن يجيء صاحبها لقوله – عليه الصلاة والسلام – في الحرم: ((ولا يحل لقطتها إلا لمنشد20))، ولنا قوله – عليه الصلاة والسلام -: ((اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة21)) من غير فصل، ولأنها لقطة، وفي التصدق بعد مدة التعريف إبقاء ملك المالك من وجه فيملكه كما في سائرها، وتأويل ما روى أنه لا يحل الالتقاط إلا للتعريف والتخصيص بالحرم لبيان أنه لا يسقط التعريف فيه لمكان أنه للغرباء ظاهراً، وإذا حضر رجل فادعى اللقطة لم تدفع إليه حتى يقيم البينة، فإن أعطى علامتها حل للملتقط أن يدفعها إليه، ولا يجبر على ذلك في القضاء وقال مالك والشافعي: "يجبر، والعلامة مثل أن يسمى وزن الدراهم وعددها، ووكاءها ووعاءها، ولهما: أن صاحب اليد ينازعه في اليد، ولا ينازعه في الملك، فيشترط الوصف لوجود المنازعة من وجه، ولا تشترط إقامة البينة لعدم المنازعة من وجه، ولنا أن اليد حق مقصود كالملك فلا يستحق إلا بحجة وهو البينة اعتباراً بالملك، إلا أنه يحل له الدفع عند إصابة العلامة لقوله – عليه الصلاة والسلام -: ((فإن جاء صاحبها، وعرف عفاصها وعددها؛ فادفعها إليه22))، وهذا للإباحة عملاً بالمشهور، وهو قوله – عليه الصلاة والسلام -: ((البينة على المدعي)).23

واختلف العلماء: هل الالتقاط أفضل أم الترك؟ فقال أبو حنيفة: الأفضل الالتقاط، لأنه من الواجب على المسلم أن يحفظ مال أخيه المسلم، وبه قال الشافعي، وقال مالك وجماعة بكراهية الالتقاط، وروي عن ابن عمر، وابن عباس، وبه قال أحمد وذلك لأمرين: أحدهما ما روي أنه – صلى الله عليه وسلم – قال: ((ضالة المؤمن حرق النار24))، ولما يخاف أيضاً من التقصير في القيام بما يجب لها من التعريف، وترك التعدي عليها، وتأول الذين رأوا الالتقاط أول الحديث وقالوا: أراد بذلك الانتفاع بها لا أخذها للتعريف، وقال قوم: بل لقطها واجب، وقد قيل: إن هذا الاختلاف إذا كانت اللقطة بين قوم مأمونين والإمام عادل، قالوا: وإن كانت اللقطة بين قوم غير مأمونين والإمام عادل فواجب التقاطها، وإن كانت بين قوم مأمونين والإمام جائر فالأفضل أن لا يلتقطها، وإن كانت بين قوم غير مأمونين والإمام غير عادل فهو مخير بحسب ما يغلب على ظنه من سلامتها أكثر من أحد الطرفين، وهذا كله ما عدا لقطة الحاج؛ فإن العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز التقاطها لنهيه – عليه الصلاة والسلام – عن ذلك، ولقطة مكة أيضاً لا يجوز التقاطها إلا لمنشد لورود النص في ذلك، والمروي في ذلك لفظان: أحدهما أنه لا ترفع لقطتها إلا لمنشد، والثاني: لا يرفع لقطتها إلا منشد، فالمعنى الواحد أنها لا ترفع إلا لمن ينشدها، والمعنى الثاني لا يلتقطها إلا لمن ينشدها ليعرف الناس، وقال مالك: تعرف هاتان اللقتطان أبداً.25

واختلفوا في العفاص والوكاء هل يقضي به في اللقطة دون شهادة أم لا بد في ذلك من شهادة؟ فقال مالك – رحمه الله -: يقضي بذلك، وقال الشافعي – رحمه الله -: لا بد من الشاهدين، وكذلك قال أبو حنيفة – رحمه الله -، وقول مالك هو أجرى على نص الأحاديث، وقول الغير أجرى على الأصول.26

والذي يترجح: أن لقطة الحرم لا يجوز أخذها إلا إذا خاف عليها التلف أو الضياع، ويجب على آخذها تعريفها ما دام في مكة، وإذا أراد الخروج سلمها لجهات الاختصاص من حاكم أو نائبه، أو من ينوب عنه، ولا يجوز تملك لقطة مكة بحال، ولا يجوز أخذها إلا لمن يُعرِّفها أبداً، أما لقطة الحاج فيحرم التقاطها سواء كانت في الحل أو الحرم.

وفي هذا الزمان والحمد لله فقد هيئت مكاتب للضائعات خاصة في داخل المسجد الحرم؛ فترد إليها، وإن كانت بعيدة عن المسجد فتسلم إلى الجهات المختصة، أما بقية المساجد فإن كان لديهم صندوق للمفقودات تابع للمسجد فتوضع فيه، وإذا لم يوجد فيعرفها بباب المسجد، أو يضعها عند الإمام، والله – عز وجل – أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.


1 التعاريف (1/625).

2 التعريفات (1/248)؛ التعاريف (1/625).

3 المعجم الوسيط (2/834).

4 صحيح البخاري (1/46) رقم (91) بَاب الْغَضَبِ في الْمَوْعِظَةِ وَالتَّعْلِيمِ إذا رَأَى ما يَكْرَهُ.

5 تهذيب الأسماء (3/8.).

6 بدائع الصنائع (6/2.2)؛ شرح مختصر خليل (7/126)؛ كفاية الطالب (2/363)؛ مواهب الجليل (6/74).

7 منح الجليل (8/234).

8 الحاوي الكبير (8/5)؛ المجموع (7/392)؛ روضة الطالبين (5/413)؛ أسنى المطالب في شرح روض الطالب (2/494).

9 الفروع (3/349)؛ مسائل الإمام أحمد بن حنبل وابن راهويه (1/577).

10 المهذب (1/219).

11 البخاري (1/452) رقم (1284)، و(2/651) رقم (1736).

12 التمهيد (3/111).

13 الاستذكار (7/244).

14 الاستذكار (7/249).

15 الاستذكار (7/249).

16 الأم (4/85)؛ الاستذكار (7/249)

17 بدائع الصنائع (5/298).

18 المعجم الكبير للطبراني (6/347) رقم (6717).

19 بدائع الصنائع (5/298).

20 المعجم الكبير للطبراني (1./29) رقم (11759).

21 رواه البخاري (1/161) رقم (89) و(8/194) رقم (2199)؛ و مسلم (9/128) رقم (3247).

22 رواه مسلم (9/13) رقم (3249).

23 انظر الهداية (1/417).

24 المعجم الكبير (2/265) رقم (2111-489).

25 بداية المجتهد (1/1113).

26 بداية المجتهد (1/1277).