إبراهيم القلب السليم

إبراهيم القلب السليم

 

إبراهيم القلب السليم

 

الحمد لله الذي كتب الإيمان وزينه في قلوب أوليائه، وجعل فيها الرأفة والرحمة على عباده، المطلع على تقلب قلوبهم، والعليم بمختلف أحوالهم، والممتحن للقلوب بالتقوى، والمطهر لها من الشرك وأدرانه.

أحمده كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشكره على عظيم رحمته وسعة أفضاله، وأستعين به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من خلقه وخليله، شرح الله له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره.

أما بعد:

 فإن الله – تعالى- قد اصطفى من الناس الأنبياء، واصطفى من الأنبياء أولي العزم، واصطفى من أولي العزم الخليلين محمد وإبراهيم – عليهما السلام -.

وفي هذه المقالة سيكون حديثنا عن الأواه الحليم، صاحب القلب السليم، وخليل رب العالمين، ومكسر الأصنام غضباً لربه العظيم، من جعله الله أمة وهو بمفرده قال – تعالى-: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}النحل(120-121).

لقد أخبر الله – سبحانه وتعالى – أنه لن ينجو من عذابه وسخطه يوم القيامة إلا صاحب القلب السليم، ويأتي في مقدمة أصحاب القلوب السليمة إبراهيم الخليل – عليه السلام -؛ لقوله – تعالى- حاكياً عنه: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}الشعراء (87-89).

وقد اختلفت عبارات السلف – رحمهم الله – في معنى القلب السليم؛ قال ابن القيم – رحمه الله – بعد أن أشار إلى ذلك:( والأمر الجامع لذلك: أنه الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله، فسلم من محبة غير الله معه، ومن خوفه ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والذل له، وإيثار مرضاته في كل حال، والتباعد من سخطه بكل طريق، وهذا هو حقيقة العبودية التي لا تصلح إلا لله – سبحانه وتعالى- وحده)1، وقال أيضاً: والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل، والحقد والحسد، والشح والكبر، وحب الدنيا والرياسة، فسلم من كل آفة تبعده من الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطع عن الله، فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا، وفي جنة البرزخ، وفي جنة يوم المعاد، ولا تتم سلامته مطلقاً حتى يسلم من خمسة أشياء:

1.   من شرك يناقض التوحيد.

2.   وبدعة تخالف السنة.

3.   وشهوة تخالف الأمر.

4.   وغفلة تناقض الذكر.

5.   وهوى يناقض التجريد والإخلاص2.

ولقد أخبر الله عن خليله إبراهيم – عليه السلام – أنه ممن أتى ربه بقلبٍ سليم؛ كما في قوله – تعالى-: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}سورة الشعراء (83-84) ، والمقصود بمجيء إبراهيم ربه بقلب سليم ما قاله القرطبي – رحمه الله -: "يحتمل مجيئه إلى ربه وجهين: أحدهما: عند دعائه إلى توحيده وطاعته.

والثاني: عند إلقائه في النار"3.

وهذا أجمع تأويل لهذا المجيء، ولذلك كان لا بد من بيان وتوضيح هذين الوجهين فنقول: الوجه الأول: عند دعائه إلى توحيده وطاعته، وذلك له أمثلة كثيرة من القرآن؛ منها دعوته لأبيه وقومه إلى عبادة الله وطاعته، وترك طاعة ما سواه، فإنه قال بعد إنكاره على أبيه وقومه عبادة ما لا يضر ولا ينفع: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}سورة الصافات(85-87) ، وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ }سورة الزخرف(26-27) ، وقوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إذا قال لأبيه وقومه ما تعبدون * قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين * قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون * قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدوٌ لي إلا رب العالمين*…}سورة الشعراء (69-76).

وكذلك قصته مع النمرود ومجادلته إياه؛ كما في قوله – تعالى-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}سورة البقرة (258) ، وقوله – تعالى-: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}سورة الأنبياء(51-52) ، وما كل تلك الدعوات إلى التوحيد والطاعة وإنكار الشرك والعصيان إلا لسلامة قلبه وذلك لا شك فيه ولا ريب.

النوع الثاني: عند إلقائه في النار: فإن الله – جل وعلا – يدافع عن المؤمنين الموحدين ذوي القلوب السليمة، فيحفظهم في أشد الظروف وأقساها، ولذلك فإن إبراهيم – عليه السلام – لما ألقي في النار، وذلك بعد إنكاره على قومه عبادة غير الله، وكسره لآلهتهم التي يعبدونها، ما كان منهم إلا أن قالوا كما أخبر عنهم: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين}سورة الأنبياء(68-69) قال ابن عباس – رضي الله عنه -: لما ألقي إبراهيم جعل خازن المطر يقول: متى أومر بالمطر فأرسله؟ قال: فكان أمر الله أسرع من أمره. قال الله: {يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} قال: فلم يبق نار في الأرض إلا طفئت.

وقال كعب الأحبار: لم ينتفع أحد يومئذ بنار، ولم تحرق النار من إبراهيم سوى وثاقه.

وجاء في بعض الآثار: أن إبراهيم – عليه السلام – ألقي في النار، فكان فيها إما خمسين وإما أربعين، قال: ما كانت أياماً وليالي قط أطيب عيشاً إذ كنت فيها وددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيه4.

 

علامات القلب السليم:

وبما أننا قد تكلمنا عن القلب السليم فقد رأينا أن نذكر ملخص ما قاله ابن القيم – رحمه الله – في علامات القلب السليم حتى نعلم هل قلوبنا من تلك القلوب التي تنطبق عليها تلك العلامات؛ فنحمد الله، ونسأله حسن الخاتمة، والمزيد من فضله، أم أننا على العكس من ذلك فنسأله أن يرزقنا قلوباً فإنه لا قلوب لنا.

فمن علامات صحة القلب:

1. أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة ويحل فيها، حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها، وقد جاء إلى هذه الدار غريباً يأخذ منها حاجته، ويعود إلى وطنه، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لعبد الله بن عمر – رضي الله عنهما -: (كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل)5.

2. ومن علامات صحة القلب: أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه، الذي لا حياة له ولا فلاح، ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به، وعليه يتوكل، وبه يتق، وإياه يرجو، وله يخاف، فذكره قوته، وغذاؤه محبته، والشوق إليه حياته ونعيمه ولذته وسروره، والالتفات إلى غيره والتعلق بسواه داؤه، والرجوع إليه دواؤه، وقد قال بعض العارفين: "مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها؛ قيل: وما أطيب فيها؟ قال: محبة الله، والأنس به، والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره وطاعته"، وقال آخر: "إنه ليمر بي أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب"، وقال آخر: "والله ما طابت الدنيا إلا بمحبته وطاعته، ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته".

3. ومن علامات صحة القلب: أنه لا يفتر عن ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره إلا بمن يدله عليه، ويذكره به، ويذاكره بهذا الأمر.

4.   أنه إذا فاته ورده – من ليل أو نهار- وجد لفواته ألماً أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده.

5. أنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا، واشتد عليه خروجه منها، ووجد فيها راحته ونعيمه، وقرَّة عينه، وسرور قلبه.

6.   أن يكون همه واحداً، وأن يكون في الله.

7.   أن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعاً من أشد الناس شحاً بماله ومنعاً.

8. أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل، فيحرص على الإخلاص فيه والنصيحة والمتابعة والإحسان، ويشهد مع ذلك منَّة الله عليه فيه، وتقصيره في حق الله، يقول ابن القيم – رحمه الله -: وبالجملة فالقلب الصحيح: هو الذي همه كله في الله، وحبه كله له، وقصده له، وبدنه له، وأعماله له، ونومه له، ويقظته له، وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث، وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابه، والخلوة به آثر عنده من الخلطة إلا من حيث تكون الخلطة أحب إليه وأرضى له، وقرة عينه به، وطمأنينته وسكونه إليه، فهو كلما وجد من نفسه التفاتاً إلى غيره تلا عليها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارجعي إلى ربك راضية مرضية}سورة الفجر(27-28) ، فيردد عليها الخطاب بذلك ليسمعه من ربه يوم لقائه، فيصبغ القلب بين يدي إلهه ومعبوده الحق بصبغة العبودية، فتصير العبودية محبة محبوبه لخدمته وقضاء أشغاله، فكلما عرض له أمر من ربه أو نهي أحس من قلبه ناطقاً ينطق: لبيك وسعديك، إني سامع مطيع ممتثل، ولك علي المنة في ذلك، والحمد فيه عائد إليك، وإذا أصابه قدر وجد من قلبه ناطقاً يقول: أنا عبدك ومسكينك وفقيرك، وأنا عبدك الفقير العاجز الضعيف المسكين، وأنت ربي العزيز الرحيم، لا صبر لي إن لم تصبِّرني، ولا قوة لي إن لم تحملني وتقوِّني؛ ولا ملجأ إلا إليك، ولا مستعان لي إلا بك، ولا انصراف لي عن بابك، ولا مذهب لي عنك، فينظر بمجموعه بين يديه، ويعتمد بكليته عليه، فإن أصابه بما يكره قال: رحمة اهديت إليّ، ودواء نافع من طبيب مشفق، وإن صرف عنه ما يحب قال: شراً صرفه عني، فكلما مسّه من السراء والضراء اهتدى بها طريقاً إليه، وانفتح له باب يدخل منه عليه، كما قيل:

ما مسـني قدر بكــره أو رضى            إلا إذا اهتديت به إليك طريقاً

أمضى القضاء على الرضى مني به             إنـي وجدتك في البلاء رفيقاً

ويقول ابن القيم مادحاً ومثنياً على صاحب القلب السليم: فَلِلَّهِ هاتيك القلوب، وما انطوت عليه من الضمائر، وماذا أودعته من الكنوز والذخائر، والله طيب أسرارها ولاسيما يوم تبلى السرائر

ستبدي لها طيب ونور وبهجة               وحسن ثناء يوم تبلى السرائر

تالله لقد رفع لها علم عظيم فشمرت إليه، واستبان لها صراط مستقيم فاستقامت عليه، ودعاها إلى ما دون مطلوبها الأعلى فلم تستجب إليه واختارته على ما سواه، وآثرت ما لديه"6 وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 


1 – إغاثة اللهفان(1/7). الناشر : دار المعرفة – بيروت. الطبعة الثانية (1395هـ). تحقيق : محمد حامد الفقي.

2 – الجواب الكافي، صـ(84). الناشر : دار الكتب العلمية – بيروت.

3 – الجامع لأحكام القرآن(15/82).

4 – انظر تفسير ابن كثير (3/247).

5 – رواه البخاري، رقم (6053).

6 – راجع: "إغاثة اللهفان"(1/70). وما بعدها. الناشر: دار المعرفة – بيروت. الطبعة الثانية(1395 هـ). تحقيق : محمد حامد الفقي.