كيف حالك وقد أزف رحيله

كيف حالك وقد أزف رحيله !

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أوصيكم عباد الله بتقوى الله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّه} (131) سورة النساء .

عباد الله:

بالأمس أقبل مُشرق الميـلاد   شهرُ التُّقـاة وموسمُ العُبـَّاد

واليوم شدَّ إلى الرحيل متاعه    قد زود الدنيـا بخير الــزاد

لا أوحش الرحمن منك منازلاً   ذكراك يعلو في الربى والوادي

ما أشبه الليلة بالبارحة، كنا في جمعة ماضية نعيش أول أيام شهر رمضان، واليوم نعيش وداعه ولم يبق إلا ساعات معدودة ونفارقه، ..نعم.. مضى الشهر وودعناه وما استودعناه، ذهب شاهدًا لنا أو علينا، فليت شعري من المقبول فنهنيه، ومن المحروم فنعزيه، يا من وُفّق للاجتهاد والعمل الصالح في هذا الشهر، ها قد انقضى الشهر، فهل تذكر ألمَ الجوع والعطش من فقدِ الطعام والشراب؟! أم هل أجهدك القيام؟! لقد ذهب التعب والنصب وثبت الأجر -إن شاء الله-.

قد كنت من أول الشهر تقوم لله وتصلي وتسجد وتقرأ وتذكر، وغيرك لم ينفك عن التعب، فقد قام… لكن لهواه، واجتهد لكن في تحصيل دنياه، أضاع ليله ونهاره حتى ذهب عنه الشهر ولا أجر، بل هو الوزر وربِّي وبئس ما فعل، وزر في رمضان؟! (كل الناس يغدو؛ فبائع نفسه: فمعتقها أو موبقها). ذهبت الدنيا بأتعابها، وبقيت تبعاتها.

ما ضاع من أيامنا هل يغرم؟     هيهات والأزمان كيف تقوَّم؟

يـوم بأرواح تباع وتشترَى    وأخوه ليس يُسام فيه الـدّرهم

إن في كرِّ الأيام والليالي لعبرةً، والأيام تمر مرَّ السحاب، عشيةٌ تمضي، وتأتي بكرة، وحساب يأتي على مثقال الذرة، والناس برُمَّتهم مُذ خُلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حطٌّ عن رحالهم إلا في الجنة أو في السعير. ألا وإن سرعة حركة الليل والنهار لتؤكِّد تقارب الزمان الذي هو من أشراط الساعة كما صحَّ بذلكم الخبر عن الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، وهذا كله –عباد الله– يُعدُّ فرصةً عظمى لإيقاظ ذوي الفطن وأصحاب الحجى، لفعل الخير، والتوبة النصوح، وإسداء المعروف، وترك ما يشين: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} (62) سورة الفرقان.

لقد ظل المسلمون شهراً كاملاً ينالون من نفحات ربهم، ويُرون الله من أنفسهم متقلِّبين في ذلك بين دعاء وصلاة وذكر وصدقة وتلاوةٍ للقرآن، ولكن سرعان ما انقضت الأيام، وتلاشت الذكريات، وكأنها أوراق الخريف عصفت بها الريح على أمر قد قدر، أو بلابل روح قد هدأ تغريدها، وإلى الله المصير.

فيا أيها المسلم الموفق: اعرف نعمة الله عليك بتوفيقك للعمل الصالح، ولولا فضل الله عليك لكنت من الهالكين. إن أداءك العمل الصالح توفيقٌ من الله لك، وعون من الله لك، فلو وكلك الله إلى نفسك لهلكت، فالشيطان متسلط عليك، كل لحظة يتمنى أن يضلك ويغويك:{قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً} (62) سورة الإسراء. وقال عنه جل وعلا-:{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (16) سورة الأعراف.

ولكن الله عصم منه عباده المخلصين:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (42) سورة الحجر. إذاً أيها المسلم: أداؤك العمل الصالح توفيق من الله لك، وعون من الله لك، فالله يقول لنبيه:   {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً* إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} (75) سورة الإسراء. إذاً يا أخي، إذا وُفقت لعمل صالح فاعلم أن هذا فضل من الله عليك، وكرمٌ من الله عليك، وكم ضل أقوام وزاغت قلوب أقوام ما وفقهم الله للصواب، والله يقول لنبيه:{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ} (113) سورة النساء. فاعرف نعمة الله عليك، واحمد الله على التوفيق والتيسير.

عبد الله:

ومع هذا الفضل الذي منحك الله إياه فإياك أن تأتي بأمور قد تكون سبباً لحبطان العمل، فمن ذلك الغرور بالنفس والانخداع والإعجاب بالنفس والتكبر على الله بالعمل. إذ لولا توفيق الله لك ما عملت، ولولا هداية الله لك ما استقمت، قال تعالى:{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} (83) سورة النساء . إياك أن تُعجب بعملك.. إياك أن تغتر بنفسك.. إياك أن يدخلك الكبر والعجب، بل كلما أحسست بشيء من ذلك فذكر نفسك أن ذلك فضل من الله عليك، وأنه لولا فضل الله ورحمته لأغواك الشيطان وأضلك عن سواء السبيل:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (6) سورة فاطر.

إن المؤمن كلما عمل العمل وأخلصه لله، وكان عمله صالحاً، فإنه لا يغتر بنفسه، يخاف على هذا العمل أن يعرض له ما يحبطه أو يذهبه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (33) سورة محمد. ويقول: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} (92) سورة النحل. لكن المؤمن يحافظ على العمل. ولقد كان سلفكم الصالح –أيها المسلمون- يهتمون بقبول العمل أعظم من اهتمامهم بالعمل، قال بعضهم: "كونوا لقبول العمل أشدَّ منكم من العمل". قال الله -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ* وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ* وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (57-60) سورة المؤمنون. فهؤلاء قوم يعملون الأعمال الصالحة ويخشون أن لا يتقبل منهم، قيل: وذلك لقوة الإيمان، ومعرفتهم بربهم وأنفسهم يخافون على الأعمال أن ترد عليهم. كان السلف يخافون النفاق على أنفسهم، ويقول بعضهم: "ما خاف النفاق إلا مؤمن، وما أمِن النفاق إلا منافق". كل ذلك حرصٌ على العمل الصالح أن يتطرق إليه ما يذهبه أو ينقص ثوابه.

أيها المسلم: وأنت اليوم على أبواب ختام رمضان، فاحمد الله قبل كل شيء أن بلغك رمضان، واحمده أن يسر لك فيه الصيام والقيام وتلاوة القرآن، واحمده إذ بلغك كمال رمضان في صحة وسلامة وأمن واطمئنان. فاحمد الله على هذه النعم، واشكره عليها كل آن وحين، فهو تعالى يحب من عباده أن يشكروه، واسأل ربك أن يختم لك رمضان بالحسنى، وأن يجعلك في عداد المقبولين، وأن يجعلك ممن قبل صيامه وقيامه، فهذا هو المطلوب، نسأل الله أن يتقبل من الجميع.

إن إبراهيم وإسماعيل -عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام- نبيان من أنبياء الله، كانا يشيدان بيت الله الحرام، ويقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (127) سورة البقرة. فالمسلم يسأل ربه قبول عمله والله يقول:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (27) سورة المائدة.

نسأل الله أن يجعلنا من المتقين، الذين قبل الله عملهم، وأثابهم فضلاً منه ورحمة، وإلا فالتقصير منا والإساءة موجودة، ولكن رجاؤنا في الله قوي، فنتعلق برجاء الله، ونسأله أن يعاملنا بعفوه، فهو أهل الكرم والجود، {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (23) سورة الأعراف.

أيها المؤمنون: يا أهل التوبة والاستغفار، ويا أهل القيام بالأسحار،استيقظوا، ولا ترجعوا بعد رمضان إلى ارتضاع ثدي الهوى من بعد الفطام، فالرضاع إنما يصلح للطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء لا للرجال، وعليكم بالصبر على مرارة الفطام، لتعتاضوا عن لذة الهوى بحلاوة الإيمان في قلوبكم، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (70) سورة الأنفال. ذنب واحد بعد التوبة، أقبح من كذا ذنب قبلها، النكسة أصعب من المرض، وربما أهلكت، فسلوا الله الثبات على الطاعات إلى الممات، وتعوذوا بالله من تقلب القلوب، ومن الحور بعد الكور، فما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة! وأفحش فقر الطمع بعد غنى القناعة!

ذكر عند النبي –صلى الله عليه وسلم-  قوم يجتهدون في العبادة اجتهاداً شديداً، فقال: (إِنَّ لِكُلِّ عَابِدٍ شِرَّةً وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً فَإِمَّا إِلَى سُنَّةٍ وَإِمَّا إِلَى بِدْعَةٍ فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّةٍ فَقَدْ اهْتَدَى وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ)1.ومعنى الحديث -عباد الله-: أن لكل عمل قوةً وشدةً، يتبعها فتور وكسل، ولكن الناس يختلفون في هذا الفتور، فمنهم من يبقى على السنة والمحافظة عليها ولو كانت قليلة، ومنهم من يدعها ويتجاوزها إلى ما يغضب الله..وبنحو هذا يقول ابن القيم -رحمه الله-: تخلل الفترات للعباد أمر لا بد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم، رجي له أن يعود خيراً مما كان:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (32) سورة فاطر. يقول رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ) فَقِيلَ: كَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ الْمَوْتِ)2.

ولقد بكى ابن مسعود عند موته، فسئل عن ذلك، فقال: إنما أبكي، لأنه أصابني –أي الموت- في حال فترة ولم يصبني في حال اجتهاد. اللهم اغفر لنا وتب علينا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى..أما بعد:

إنه لمن المناسب ونحن في ختام هذا الشهر الكريم وساعاته الباقية ومشرفون على أيام عيد وفرح أن نذكِّر بالإحسان والجود على المحتاجين.

إن الصدقة مدعاة لزيادة المال، ونزول الخيرات، وحلول البركات، وهي سبب للاستظلال في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، كما أن لها تأثيرًا في دفع البلايا.

قال ابن القيم -رحمه الله-: (للصدقة تأثير عجيب في دفع أنواع البلاء، ولو كانت من فاجر، أو ظالم، بل من كافر، وهذا أمر معلوم عند الناس، وأهل الأرض مُقِرُّون بذلك)3. فلا ينبغي لمن يسر الله لهم في معاشهم أن ينسوا أو يتناسوا إخوانهم المسلمين ممن هم بحاجة إليهم، فينبغي للمسلم أن يشرك معه الفقراء والمساكين ليفرحوا معه بالعيد، ويلبسوا الجديد ويطعموا أهليهم وأبناءهم الطعام الطيب، حتى يعم الفرح والخير سائر المسلمين.. فـ"المتصدق كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه، وانفسح لها صدره، وقوي فرحه، وعظم سروره، ولو لم يكن في الصدقة إلا هذه الفائدة لكان العبد حقيقًا بالاستكثار منها، والمبادرة إليها"4.

أيها الصائمون: إن من فضائل الصدقة: أنها سبب للخلف من الله -عز وجل- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الْآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»5. ثم إن للسخاء أثرًا في صيانة الأعراض، ونباهة الذكر، وائتلاف القلوب، وتأكيد رابطة الإخاء. وللسخاء أثرٌ في القضاء على كثير من الأخلاق المرذولة، كالحسد من الفقراء للأغنياء، وكالكبر من الأغنياء على الفقراء. وللسخاء أثرٌ في ستر العيوب، قال الشافعي رحمه الله:

وإنْ كثرت عيوبُكَ في البرايا … وَسرَّك أن يكون لها غطاءُ

تَسَتَّرْ بالسخاء فكلُّ عيـبٍ  … يُغَطِّيه كما قيل السـخاءُ

ثم إن السخيَّ قريبٌ من الله، ومن خلق الله، ومن الجنةِ، والبخيلُ بعكس ذلك.ثم إن الناس يتفاضلون بالسخاء، على قدر هممهم، وشرف نفوسهم، فيتفاضلون من جهة الإنفاق؛ فالذي ينفق في السر أكمل من الذي لا ينفق إلا في العلانية وهكذا في الكثرة والقلة.

أيها المسلمون: ألا وإن نبيكم  شرع لكم في نهاية شهركم هذا صدقة الفطر أو زكاة الفطر، وهي فريضة فرضها محمد –صلى الله عليه وسلم- فدليل فرضيتها سنة محمد –عليه الصلاة والسلام- قال عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ"6. وما فرضه رسول الله  فحكمه حكم ما فرضه الله، فهي فريضة على عموم المسلمين ذكورهم وإناثهم، صغارهم وكبارهم، أحرارهم وعبيدهم، أغنيائهم وفقرائهم، لعموم السنة. فيؤديها المسلم عن نفسه، وعمن ينفق عليه من الزوجة والأولاد، والأبوين -إن كان ينفق عليهم- ويؤديها عمن ينفق عليه ممن يستخدمهم في منزله وأماكن عمله لحديث: (أدوا صدقة الفطر عمَّن تمونون)7. واستحب أمير المؤمنين عثمان بن عفان إخراجها عن الجنين في البطن، ومن لم يؤد صدقة الفطر فهو عاص لله -جل وعلا-. وحكمتها إطعام المساكين، وإغناؤهم عن سؤال القوت في يوم العيد ليشاركوا إخوانهم فرحتهم وسرورهم، وفيها أيضاً زكاةٌ لهذا البدن الذي مضى عليه عام، وهو في سلامة وعافية من الله، وهي طهرة للصائم، عما حصل عليه في صيامه من لغو ورفث قوليٍّ أو عملي، قال عبد الله بن عباس –رضي الله عنهما-: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ"8. وفرضها رسول الله  في طعام الآدميين الذي يأكلونه على اختلافه، إذ لا تخرج من علف البهيمة، ولا من فرش وأواني وغيرها، قال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ"9. فيخرجها الإنسان من التمر من البر من الأرز من الشعير من الأقط من الزبيب، من أي صنف من هذه الأصناف الخمسة، وينظر أي الأصناف أنفع للفقير، فيعطيه فذاك أفضل.

أيها المسلم: وهذه الصدقة تجب على المسلم إذا أدرك غروب شمس آخر يوم من أيام رمضان، ولها وقتان: وقت استحباب، أن يخرجها يوم العيد في طريقه إلى المصلى، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "…وَأَمَرَ بِهَا –أي رسول الله- أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ"10، والوقت الجائز أن تخرجها قبل العيد بيوم أو يومين، فمن أخرجها قبل العيد بيوم أو يومين فإنها مجزئة إن شاء الله. نسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وان يثبتنا على الصراط المستقيم حتى نلقاه، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين11.


1 رواه  أحمد -6188- (13/226)وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب -56- (1/13).

2 رواه الترمذي -2068- (8/32) وصححه الألباني في الترغيب والترهيب -3357- (3/168).

3 الوابل الصيب لابن القيم(1/49).

4 المرجع السابق.

5 رواه البخاري -1351- (5/270) ومسلم -1678- (5/182).

6 رواه البخاري -1407- (5/370) ومسلم -1635- (5/126).

7 رواه البيهقي- (4/161) والدارقطني -2100- (5/334) وحسنه الألباني في مختصر إرواء الغليل -839- (1/161).

8 رواه أبو داود -1371- (4/413) وابن ماجه -1817- (5/411) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم: (3570).

9 رواه البخاري -1412- (ج 5 / ص 380).

10 رواه البخاري -1407- (ج 5 / ص 370).

11 استفيدت من مجموعة خطب من موقع المنبر ودروس رمضان للشيخ (محمد إبراهيم الحمد) بتصرف.