المجاهرة بالمعاصي

 

 

المجاهرة بالمعاصي

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا،من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل الله فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

فإن من أظلم الظلم أن يسيء الإنسان إلى من أحسن إليه، وأن يعصيه في أوامره ويخالفها، ويزداد هذا القبح والظلم إذا أعلنه صاحبه للملأ، وجاهر به، ولم يبال بمن رآه أو سمعه حتى ولو كان هو الذي أحسن إليه، وتكرم وتفضل عليه، فكيف إذا كان المحسن المتفضل هو الله – تبارك وتعالى -، والعاصي المجاهر هو الإنسان الضعيف، إنها بلية عظمى، ورزية كبرى؛ أن يتبجح المرء بمعصيته لله – تبارك وتعالى -، ويعلنها صريحة مدوية بلسان حالة ومقالة ناسياً أو متناسياً حق الله – تبارك وتعالى – وفضله عليه، ولذا فقد حذر الشرع الحنيف، وجاء التحذير من مجاهرة الله بالمعصية في الكتاب والسنة، وبيَّن الله – تبارك وتعالى – أن ذلك من أسباب العقوبة والعذاب في قول الله – تبارك وتعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}1، وهذا الذم والوعيد فيمن يحب إشاعة الفواحش، فما بالك بمن يشيعها ويعلنها صراحة أمامعباد الله، ومنها قوله – تبارك وتعالى -: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}2 قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله – في تفسير الآية: “بأن النقص في الزروع والثمار بسبب المعاصي، قال أبو العالية: “من عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة”، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود: ((لَحَدٌّ يقام في الأرض أحبّ إلى أهلها من أن يمطروا أربعين صباحاً))3، والسبب في هذا أن الحدود إذا أقيمت انكف الناس أو كثير منهم عن تعاطي المحرمات،وإذا ارتكبت المعاصي كان سبباً في محق البركات من السماء والأرض؛ ولهذا إذا نزل عيسى بن مريم   في آخر الزمان فحكم بهذه الشريعة المطهرة في ذلك الوقت من قتل الخنزير، وكسر الصليب، ووضع الجزية وهو تركها فلا يقبل إلا الإسلام أو السيف، فإذا أهلك الله في زمانه الدجال وأتباعه، ويأجوج ومأجوج؛ قيل للأرض: أخرجي بركاتك، فيأكل من الرمانة الفئَام من الناس، ويستظلون بقَحْفها، ويكفي لبن اللّقحة الجماعةَ من الناس، وما ذاك إلا ببركة تنفيذ شريعة رسول الله  ، فكلما أقيم العدل كثرت البركات والخير؛ ولهذا ثبت في الصحيح: ((إنَّ الفاجر إذا مات تستريح منه العباد والبلاد،والشجر والدواب))45أ. هـ.

ولقد أخبر الله – تبارك وتعالى – بأنه لا يحب الفساد فقال: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ}6، ولا شك أن المجاهرة بالمعاصي من أعظم الفساد، وبيَّن أنه لا يحب الجهر بالسوء {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً}7 قال الإمام البغوي – رحمه الله – في تفسير الآية: “يعني لا يحب الله الجهر بالقبح من القول إلا من ظلم8“.

ومعلوم أن من مارس المعاصي ولازمها تولد في قلبه الأنس بها حتى يذهب عنه استقباحها،ثم يبدأ بعد ذلك بالمجاهرة بها، وإعلانها، وغالب هؤلاء لا يعافون – والعياذ بالله – لحديث أبي هريرة   قال: سمعت رسول الله يقول: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه))9، وهذه المجاهرة موجودة ومنتشرة بين الناس، ولها صور وأشكال، فمن المجاهرة أن يذكر الماجن مجونه، وينشر الفاسق فسوقه؛ ومن المجاهرة بالمعصية حلق اللحى، وقص الشعر على مثال أهل الكفر، ومن المجاهرة تشبه النساء بالرجال، والرجال بالنساء، وكذا إسبال الثياب حتى يصل إلى تحت العقب، والسباب واللعان أمام الناس، ومن المجاهرة بالمعاصي الإفطار في نهار رمضان بدون عذر أمام الناس، ورفع أصوات الغناء والموسيقى وإزعاج الآخرين، ومن المجاهرة بالمعصية الغيبة والنميمة وذلك لأنها لا تكون في العادة إلا في أماكن تجمع الناس، وظهور النساء المتبرجات في الشوارع وفي القنوات الفضائية.

إن الاستتار بالذنب من أسباب العافية والتوبة كما في قوله من الحديث: ((معافى)) أي: تنالهم العافية والمغفرة والرحمة،فهم أهل لأن يغفر الله لهم برحمته وكرمه وجوده، إلا المجاهر الذي يعلن المعصية، فإن هذا الإنسان لا يعافى – والعياذ بالله – إلا إذا تاب وأقلع؛ وذلك لأن المجاهر بالمعصية يدعو الناس الآخرين إلى تقليده، والوقوع فيها، ومن ثم يصبح المجتمع عاجاً بالمعاصي والمنكرات، لذلك كانت المجاهرة بالمعصية أمر خطير جداً، وكذلك لأنها استخفاف بأوامر الله ​​​​​​​  ونواهيه، ولأنها ربما أدت بصاحبها والمجتمع إلى استحلال المعصية؛ فيكفر بذلك – والعياذ بالله -.

فعلى الإنسان أن يراقب الله – تعالى -، وأن يعلم أنه مطلع عليه لا تخفى عليه منه خافية، وأنه سائله عن كل صغيرة وكبيرة قال الله – تبارك وتعالى -: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء}10، وقال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}11، وقد أحسن القائل:

إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب

نسأل الله – تعالى – أن يجنبنا المنكرات، وأن يتجاوز عنا ويتوب علينا، وأن يوفقنا والمسلمين لعبادته وتعظيمه على ما يرتضيه منا بمنَّه وكرمه، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.


1 سورة النور (19).

2 سورة الروم (41).

3 لم أجده عند أبي داود وإنما رواه ابن ماجة في سننه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – برقم (2538)؛ وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجة برقم (2057), وفي الجامع الصغير وزيادته برقم (5441)؛ وصححه في السلسلة الصحيحة برقم (2310).

4 رواه البخاري في صحيحه عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري – رضي الله عنه – أنه كان يحدث: “أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مرَّ عليه بجنازة فقال: ((مستريح ومستراح منه))، قالوا: يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه؟ قال: ((العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد، والشجر والدواب)) برقم (6147)؛ ومسلم برقم (950).

5 تفسير ابن كثير (6/320).

6 سورة البقرة (205).

7 سورة النساء (148).

8 تفسير البغوي (2/304).

9 رواه البخاري في صحيحه برقم (5721)؛ ومسلم برقم (2990).

10 سورة آل عمران (5).

11 سورة الأنبياء (47).