كن مع الجماعة

كن مع الجماعة

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.. أما بعد:

صلاة الجماعة فضلها عميم، ومكانتها عظيمة، وقد جاء في فضلها من الآيات البينة والأحاديث الصحيحة ما يجعل القلب يطير قبل الجسد، ويجعل الروح مشتاقةً للمسجد تغدو وتروح، يسعى المؤمن إلى المسجد فيرتقي في الدرجات، وتتضاعف الحسنات، وتحط السيئات.

كل هذا وهو ذاهب إلى صلاة الجماعة، ولكن ليس مع هذا سأقف؛ فهناك معاني قيمة في صلاة الجماعة قد غفل عنها كثير من المسلمين، واهتموا بما يجعلها سليمةً من الأخطاء، مستوفية الشروط والأحكام، والسنن والأركان، ومع الاهتمام الطيب بكل هذا – وهو مطلوب شرعاً – إلا أنك تجد ممن يحافظ على كل ذلك قد أخل ببعض معانيها التي تعتبر مطلباً شرعياً، ومقصداً مهماً من مقاصد هذا الدين، وهو ما سنحكيه في هذه اللحظات؛ آملين أن يمن الله علينا بالعمل بعد العلم، وبالخشية بعد الموعظة، وبالهدى بعد البيان.

في صلاة الجماعة يجتمع المأمومين خلف إمامٍ واحدٍ، من تقدم منهم على إمامه بطلت صلاته، قال ابن قدامة – رحمه الله – في المغني: "السنة أن يقف المأمومون خلف الإمام؛ فإن وقفوا قدامه لم تصح، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي"1، ومن سبقه بركوع أو سجود استحق الوعيد الشديد فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – مرفوعاً: ((أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار))2.

صفوف متراصة يستوي فيها المؤمنون، لا يتقدم أحدٌ على الآخر، بل أن من تمام الصلاة تسوية الصفوف كما جاء في الصحيحين عن أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة))3، وعند مسلم: ((من تمام الصلاة))4, وغير ذلك مما يؤكد ضرورة الالتزام بالجماعة، ويبين أهمية الاجتماع ولحمة الصفوف، وضرورة الترابط، وتقوية الأواصر، يقول – تعالى- في كتابه الكريم وهو يحث عباده على لزوم الجماعة: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}5، ويؤكد على الأخوة والترابط إذ يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}6، بل يحذر سبحانه من الفرقة والشتات قال عز من قائل: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}7، فالتزام المسلمين إماماً واحداً يُذهب الخلاف أدراج الرياح، ويحقق النصر والتمكين، يقول سيد قطب – رحمه الله تعالى – (عند هذه الآية): "{ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه؛ وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار، فإذا استسلم الناس لله ورسوله؛ انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم – مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة -، فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها، مهما تبين له وجه الحق فيها! وإنما هو وضع «الذات» في كفة، والحق في كفة؛ وترجيح الذات على الحق ابتداءً!"8.

ويقول صاحب أضواء البيان: "نهى الله – جل وعلا – المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن التنازع، مبيناً أنه سبب الفشل، وذهاب القوة، ونهى عن الفرقة أيضاً في مواضع أخر كقوله: {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} ونحوها من الآيات، وقوله في هذه الآية: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي قوتكم، وقال بعض العلماء: نصركم، كما تقول العرب: الريح لفلان إذا كان غالباً، ومنه قوله: إذا هبت رياحك فاغتنمها … فإن لكل عاصفة سكون"9.

وليس الاجتماع سبباً للقوة فقط بل هي حفظ من الفتن كما أخبر بذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح، فعن حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها))، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: ((هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا))، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم))، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: ((فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك))10، بل يبين ابن مسعود – رضي الله عنه – أن الجماعة سبب لدخول الجنة، فعن الحارث بن قيس قال: قال لي عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -: "يا حارث بن قيس أليس يسرك أن تسكن وسط الجنة؟ قلت: بلى؛ قال: فالزم جماعة الناس"11.

والشيطان أقرب من الواحد وأبعد من الاثنين فعن عمر – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة))12، وعن أبي الدرداء – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة؛ إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية))13، قال زائدة: قال السائب: "يعني بالجماعة الصلاة في الجماعة"14، فما أعظم الجماعة، وما أعظم فضلها، نسأل الله أن يوفقنا لطاعته، وسبيل رضاه، والحمد له أولاً وآخراً.


1 المغني لابن قدامة المقدسي (2/44).

2 رواه البخاري برقم (659)، ومسلم برقم (427).

3 رواه البخاري برقم (690).

4 رواه مسلم برقم (433).

5 (سورة آل عمران: 103).

6 (سورة الحجرات:10).

7 (سورة الأنفال:46).

8 الظلال عند الآية رقم (46) من سورة الأنفال.

9 أضواء البيان عند الآية رقم (46) من سورة الأنفال.

10 رواه البخاري برقم (3411 )، ومسلم برقم (1847).

11 المعجم الكبير (8970).

12 رواه الترمذي والحاكم والبيهقي وصححه الألباني في صحيح الجامع (2546).

13رواه أحمد وأبوداوود والنسائي، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5701).

14 صحيح أبي داوود للألباني (1/109).