التطـوير الـذاتي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
تؤكد التربية الإسلامية في أي بلد على تخريج مسلم لديه اعتزاز بذاته، وثقة بنفسه،ومثل هذا المسلم الصالح هو الذي يقدم خيراً لنفسه ولمجتمعه، يتخذ مواقفه في الحياة بحكمة وموضوعية، يقدم ولا يحجم، ويمضي ولا يتردد متى اقتنع بخيرية الموقف وصوابيته.. فالذين يرتقون بأنفسهم وبمجتمعاتهم فعلاً، هم الذين يعملون ولا يشكون. ويفكرون ولا يتذمرون، وينطلقون ولا يتوقفون حتى بلوغ الهدف وتحقيق الغاية.
وما من إنسان سويّ يولد بلا إرادة، ولكن نوعية التربية هي التي تعزز إرادته وثقته بنفسه واعتزازه بذاته أو تسلبها. ومن خلال هذا الموضوع الشيق نتناول النقاط الأساسية له وهي:
أولاً: تنمية الفعاليات الذاتية:
إن التربية تُعنى بالارتقاء الموضوعي بكفايات الفرد وفعالياته، ومن ذلك:
أ- تنمية الذكاء: بتحليل القرارات والإجراءات،وكشف نواحي القوة والضعف في كل منها، وتوجيه الناس نحو القيم المطلوبة.
ب- تنمية العلاقات الأخوية:
وذلك باستيعاب هذه العلاقات وتأصيلها على أساس من الحق والعدل والخير والصلاح، وفق الضوابط الأخلاقية والقيم الرفيعة.
ج- تنمية الوعي:
ومهمة الوعي الكبرى أن يشكل ذاته، ويبني استقلاله بعيداً عن سجن الواقع، وخارج معطيات البرمجة الثقافية المحلية، وخارج حدود النظام الاجتماعي السائد، وذلك بغية الحصول على أفضل إدراك للحقائق الموضوعية المختلفة. ومن مهامه أيضاً: يقوم بنقل الوعي من رد الفعل إلى صناعة الفعل وصناعة المعلومات وتنمية الإرادة.1
ثانياً: مقومات التطوير الذاتي:
1- المقومات الفطرية: والمقصود بها المقومات التي تولد مع الإنسان وفق الفطرة التي فطره الله عليها،وتنميتها المعرفة والخبرة والتجربة. وأهم هذه المقومات ما يأتي:
أ- الموهبة: وهي إعمال عقل وفكر، واستثمار معرفة وعلم، واستقراء واقع ووقائع، واستشراق معطيات وأحداث، وإحكام القرارات أو التصرفات وفقاً لذلك ومن ذلك على سبيل المثال:
في ارتداد العرب: تقول عائشة -رضي الله عنها-: (لما قبض رسول الله، ارتدت العرب قاطبة واشرأب النفاق، وصار أصحاب محمد كأنهم معزى مطيرة في ليلة مطيرة في أرض مسبغة، فو الله ما اختلفوا في أمر إلا طار أبو بكر بحطامها وعنانها وفصلها). ويقول أبو هريرة -رضي الله عنه-: (والله الذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر استُخلِف ما عُبِدَ الله في الأرض)2.
ب- القدرة: من المتطلبات الأساسية في تطوير الذات، مثل القدرات الإدراكية عموماً من ذكاء وفطنة وقدرة على التقويم والنقد والترجيح والاختيار بين البدائل المتاحة وغير ذلك.
ومثل القدرات البدنية: أن يكون سليم الحواس، وافر القوى، قادراً على تحمل المشاق والمتاعب وغير ذلك.
ج- الإرادة: إن الذي يحيل الأمنيات إلى واقع هو صاحب الإرادة القوية النافذة، أما من سواه فيبقى يجتر الأماني، ويلوك الأحلام ما استمرت به الحياة وتتابعت الأيام.
فالإرادة: هي التي تسمو بالسعي الإنساني أو تهبط به، وسبيل الإرادة يمر بالفهم فالاستيعاب فالإدراك بخطى واثقة وبصيرة متفتحة.
د- الشخصية: ونعني بها حسن استثمار القوى التي منحها الله للإنسان، انطلاقاً من مقومات العلم والمعرفة والخبرة والتجربة.
وقوي الشخصية محبوب من الناس في حزمه وفي حلمه، وحلم القادر على السفيه قوة في الشخصية، والتنكيل به وتناوله من موقف القوة والقدرة ضعف في الشخصية.
وشتان بين الإلزام وبين الالتزام الذاتي المتأتي عن حب وثقة واطمئنان، فيكون التزاماً قائماً على اقتناع وجداني، وتقبُّلٍ نفسي، واطمئنانٍ قلبي وعقلي.
2- المقومات المكتسبة:
أ- المعرفة المتخصصة:
المعارف كثيرة متعددة الأنواع ومتنوعة المجالات، وكل إنسان مطلوب منه أن يحوز قدراً عاماً من المعارف الدينية والاجتماعية والكونية، يجعله يتعامل مع الله -عز وجل- ومع الناس ومع معطيات الكون الذي يعيش فيه بوعي وموضوعية، ولكن الإنسان مطالب بالتعمق في نوع واحد من المعرفة أو أكثر، كاختصاص له يصبح مرجعاً فيه.
ب- الإدارة:
الإدارة في أي قطاع من القطاعات بمثابة الرأس للجسد، فهي التي تفكر وتخطط وتتابع التنفيذ والتقويم.
فلا بد في التطوير الذاتي من إدارة يدير الشخص بها نفسه ويتعاهدها في الاجتهاد والمثابرة ويرفق بها في حالات الضعف والمرض، ويوازن بين الأمور والأفعال حتى لا تكون عرضةً للانهيار والانحراف.
ج- القيم الأخلاقية:
مكارم الأخلاق وعلياء الفضائل من أهم مميزات الإنسان في المجتمعات، وهي لازمة في مقومات التطوير الذاتي، لأن المسلم الحكيم هو من يزكي نفسه أخلاقياً، ويتغلب على عيوبه ذاتياً، ويعمل على تزكية سلوكه، والتخلص من أي نقيصة تعتري أخلاقه3.
وخلاصة القول في مقومات التطوير الذاتي:
من المنظور الإسلامي أن يكون متميزاً بمقومات فطرية عالية، وبمقومات مكتسبة سامية، مما يتيح له قيادة فذة في نفسه وفي غيره، تتميز بخلائق النبل، ورجاحة العلم، وأصالة الرأي، وحلاوة المعاشرة، وموضوعية التعامل، وسعة الصدر، وكرامة الصبر، فيعيش سعيداً مع نفسه ومع إخوانه وفي عمله الدعوي ومع المسلمين جميعاً.
ثالثاً: مواطن التطوير الذاتي:
من أهم هذه المواطن:
1- في الفكر:
العقل الإسلامي: عقل فكري إبداعي، ونظرة المسلم للحياة تؤكد على معنى الالتزام وحسن السلوك أكثر من تأكيدها على فهم الأسباب أو اكتشاف الطبيعة.. والشرع الحنيف، ومجمل الأدبيات الإسلامية تركز باستمرار على ضرورة تسخير الطبيعة وثمرات المعرفة ونتائج الجهد البشري من أجل قيام المسلم بأمر الله -تعالى-، وأمر رسوله ﷺ والاستخلاف في الأرض.
2- في الرؤية الكلية:
وهي عبارة عن محاولات لرؤية الشيء في أبعاده المختلفة وعلى مستويات عديدة، والتقليل من النظرة السطحية. ومن الرؤية الكلية:
أ- الوضوح في شؤون الحياة بشؤون الآخرة، أو بين الأمر الديني والدنيوي وعدم الانفصال بينهما.
ب- الربط بين الأخوة الإسلامية والعلاقات الاجتماعية.
ج- الرابط الرصيد بين المحنة والمنحة أو الشدة والرخاء.
3- في النقد البنَّـاء:
نعني به الوعي بذاته وقدرته على تجاوز النماذج الشائعة، والعودة إلى الأصول والأهداف الكبرى في كل المسائل التي تحتاج إلى إعادة النظر فيها.
إن النقد لا يحيا إلا بالنقد، ومجادلة الفكرة بالفكرة والطريقة بالطريقة، فالنقد لا يصحح من خلال حركته وتجلياته جوانب حياتنا فحسب، وإنما يصحح ذاته في المقام الأول.
فالكسل داء مستشر في الناس، ويغزو كل مفاصل حياتهم، فنحن ننجذب دائماً إلى أن نؤدي جميع أعمالنا بالحد الأدنى والمقبول من الجهد على ما هو مشاهد في البلدان النامية اليوم. والنقد هو الذي يكشف عن قصور انجازاتنا حيث يحاكمها من خلال التنظير إلى النموذج الأصلي الذي كان ينبغي أن يتجسد فيها.4
رابعاً: صور من عدم التطوير الذاتي:
أ- الهروب من أداء الواجب.
ب- الوسيلة عوضاً عن المبدأ.
ج- القوة عوضاً عن الرحمة.
د- الشعور بالهزيمة.
خامساً: نماذج قيم التطوير الذاتي:
أ- المسارعة والمسابقة في الأعمال الصالحة.
ب- المحافظة على المبادئ والمفاهيم، واتخاذ الأساليب المناسبة لحفظها.
ج- الرحمة والرفق والعفو مضامين إسلامية رفيعة يجب أن تسود في الأفراد والجماعات.
د- الاهتمام والشعور بالمسؤولية، وعدم الشعور بالهزيمة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.