علمني وأوجز (1)

 

 

علمني وأوجز (1)

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:

فلقد بعث الله – سبحانه وتعالى – نبينا محمداً   إلى العالمين؛ يتلو عليهم آيات الله، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}1.

بعثه الله – عز وجل – شاهداً بالحق، ومبشراً بالخير، ونذيراً يحذِّر من الخطر {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}2، أرسله ربه داعية يدعو الناس إلى خير الأديان، وجعله سراجاً ينير الدرب لبني الإنسان {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًامُّنِيرًا}3،

وهكذا كان   يعلِّم هذا، ويعظ هذا، ويدعو ذاك، ومن هذا الصنيع ما يخبر به الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري – رضي الله عنه -؛ أن رجلاً جاء إلى النبي   فقال له: يا رسول الله علمني وأوجز، قال: ((إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع، ولا تكلم بكلام تعتذر منه، وأجمع اليأس عما في أيدي الناس))4.

ماأجملها من نصائح، وما أجلَّها من كلمات، إنها من جوامع الكلم التي منحها الله – عزوجل – لنبيه  كما جاء عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال:سمعت رسول الله   يقول: ((بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض؛ فوضعت في يدي))5.

وحديث أبي أيوب الأنصاري – رضي الله عنه – الذي بين أيدينا هو من جوامع كلمه  ، فقد جمع أموراً مهمة لا غنى للمسلم عنها، ولابد له منها إن أراد أن يعيش حياة طيبة على منهاج النبوة، أو أراد أن يحيا حياة السعداء، وهذه الوصايا الثلاث هي من أعظم الوصايا التي يحرص المسلم على تطبيقها، والعمل بمقتضاها، وسنقف بإذن الله – تعالى – مع كل وصية على حدة؛ علَّنا نعرف بعض المعاني المهمة، والمقاصد العلية؛ وأن نعلم علماً نعمل به، ويكون لنا ذخراً يوم نلقى الله – سبحانه وتعالى -فلا ينفعك شيء إلا ما قدمت من خير ترجو به ثواب الله – عز وجل -.

الوصية الأولى: (إذا قمت إلى الصلاة فصل صلاة مودع):

يا له من شعور، صلاة مودع، صلاة من يرى نفسه أنه سيموت بعد هذه الصلاة أو أثنائها،صلاة من سيودع الأموال والأهل والأولاد، صلاة من سيودع المستقبل الجميل الذي يحلم به، صلاة من سيقبل على قيوم الأرض والسماء، صلاة من يستعد للحساب والجزاء، صلاة من ينظر إلى الجنة والنار بعيني قلبه، فيرجو الجنة، ويخاف من النار.

فكيف بالله عليكم ستكون هذه الصلاة؟ إنها بالطبع ستكون صلاة يملؤها الخشوع والخضوع،صلاة كلها افتقار إلى الله – عز وجل -، صلاة يحضرها القلب والسمع والبصر، ستكون صلاة كما أرادها الله – تعالى – من عباده المؤمنين حين وصفهم بالخشوع في صلاتهم إذ يقول: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}6، خشعوا في صلاتهم لما استشعروا أنهم في أي لحظة سيودعون هذه الحياة الدنيا وزخرفها،خشعوا في صلاتهم فتلذذوا بكل شيء في الصلاة حتى أصبحت قرَّة أعينهم، وراحة قلوبهم وأرواحهم، وهذا ما كان عند إمام الخاشعين، وقدوة الناس أجمعين فعن أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله  : ((حُبِّبَ إلي النساء والطيب، وجُعِلَت قرة عيني في الصلاة))7، فلما كانت قرَّة عينه كان يرتاح بها، ويأنس عند قربها فعن سالم بن أبي الجعد قال: قال رجل: قال مسعر أراه من خزاعة: “ليتني صليت فاسترحت”، فكأنهم عابوا عليه ذلك، فقال: سمعت رسول الله   يقول: ((يا بلال أقم الصلاة؛ أرحنا بها))8

قال في النهاية أي: نستريح بأدائها من شغل القلب بها، وقيل: كان اشتغاله بالصلاة راحة له؛ فإنه كان يعد غيرها من الأعمال الدنيوية تعباً، فكان يستريح بالصلاة لما فيها من مناجاة الله – تعالى -؛ ولهذا قال: ((وجُعِلَت قرة عيني في الصلاة))، وما أقرب الراحة من قرة العين”9.

إن الذي يصلي صلاة مودع يعيش مع كل لحظة في صلاته، فهو يتأمل في الآيات، ويقشعر جسده عند قراءة ما في الصلاة من قرآن، وهذه من صفات أهل الإيمان قال الله – تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَاللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}10، الآيات تُأثر في قلوبهم وأجسادهم {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}11، فكل ما يجد المؤمن من خشوع واستئناس بالصلاة فهو من توفيق من الله – تعالى -،وهداية منه؛ قال الإمام السعدي – رحمه الله تعالى -: “{تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} لما فيه من التخويف والترهيب المزعج، {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي: عند ذكر الرجاء والترغيب، فهو تارة يرغب لعمل الخير، وتارة يرهبهم من عمل الشر (ذلك) الذي ذكره الله من تأثير القرآن فيهم (هدى لله) أي: هداية منه لعباده، وهو من جملة فضله وإحسانه عليهم(يهدي به) أي: القرآن الذي وصفناه لكم (هدى الله) الذي لا طريق يوصل إلى الله إلا منه{يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ}12 ممن حسن قصده؛ كما قال – تعالى -: {يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم}13، {وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}؛ لأنه لا طريق يوصل إليه إلا توفيقه؛ والتوفيق بالإقبال على كتابه، فإذا لم يحصل هذا فلا سبيل إلى الهدى، وما هو إلا الضلال المبين، والشقاء المهين”14.

ومن تأمل الآيات، واستشعر أن الله – عز وجل – يسمعه وهو قائم يصلي، ويفرح بأن يراه وقد حلَّق في سماء التعبد؛ علم أهمية الخشوع في الصلاة فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي   قال: ((من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج)) – ثلاثاً – غير تمام، فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك؛ فإني سمعت رسول الله   يقول: ((قال الله – تعالى -: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين قال الله – تعالى -: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله -تعالى -: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي، وقال مرة: فوض إلي عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي؛ ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل))15.

أكل هذا يكون في الصلاة؟

نعم، لكن القليل من يستشعره، والقليل من يجد حلاوته، وذلك هدى الله يهدي به من يشاء.

من صلى صلاة مودع سوف ينعم بهذا النعيم، وليس هذا فقط؛ بل سيجد النعيم في الركوع والسجود، وسيفكر في كل تسبيحه وتكبيرة، وسيحقق ما قاله حاتم الأصم في بيان معرفة الصلاة وأدائها فيما نقله الإمام الغزالي – رحمه الله تعالى – فقال: “ويروى عن حاتم الأصم – رضي الله عنه – أنه سئل عن صلاته؛ فقال: إذا حانت الصلاة أسبغت الوضوء، وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه، فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي، ثم أقوم إلى صلاتي، وأجعل الكعبة بين حاجبي، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني، والنار عن شمالي، وملك الموت ورائي، أظنها آخر صلاتي، ثم أقوم بين الرجاء والخوف، وأكبر تكبيراً بتحقيق، وأقرأ قراءةً بترتيل، وأركع ركوعاً بتواضع، وأسجد سجوداً بتخشع،وأقعد على الورك الأيسر، وأفرش ظهر قدمها، وأنصب القدم اليمنى على الإبهام، وأتبعها الإخلاص، ثم لا أدري أقبلت مني أم لا؟”16

وجاء في التبصرة مثله عن حاتم الأصم، وهو يبين كيفية الصلاة يقول الفيروز آبادي -رحمه الله تعالى -: “مرَّ عصام بن يوسف بحاتم الأصم وهو يتكلم في مجلسه، فقال: يا حاتم كيف تصلي؟ قال حاتم: أقوم بالأمر، وأمشي بالسكينة، وأدخل بالنية، وأكبر بالعظمة، وأقرأ بالترتيل والتفكر، وأركع بالخشوع، وأسجد بالتواضع، وأسلمها بالإخلاص إلى الله – تعالى -، وأخاف ألا يتقبل مني، فقال: تكلم؛ فأنت تحسن أن تصلي، يا هذا بين صلاتك وصلاتهم كما بين وقتك وأوقاتهم”17.

فالصلاة بتدبر وخشوع – وإن قلَّت – خير من صلاة خالية من التأمل والخضوع قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: “ركعتان مقتصدتان في تفكر خيرٌ من قيام ليلةٍ والقلب ساهٍ”18.

والصلاة التي يحضر فيها العبد قلبه، ويستحضر وقوفه أمام الله وقربه، تلك الصلاة التي يودع معها صاحبها كل مشاغل الدنيا، جاعلاً الله – عز وجل – أكبر كل من شيء؛هذه الصلاة هي التي تنفع صاحبها في الدنيا والآخرة، فهي التي قال الله – تعالى – فيها: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}19، فالصلاة المستوفية الشروط والأركان، المحسنة بالسنن والمستحبات، تجدها آمرة المعروف، ناهية عن المنكر، فكيف – بالله – يستسيغ التمتع بما حرم الله – تعالى – من استغرق في لذة اسمها الصلاة؟ قال الإمام السعدي – رحمه الله تعالى -: “(إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) فالفحشاء كل ما استعظم واستفحش من المعاصي التي تشتهيها النفوس، والمنكر كل معصية تنكرها العقول والفطر، ووجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر: أن العبد المقيم لها، المتمم لأركانها وشروطها وخشوعها؛ يستنير قلبه، ويتطهر فؤاده، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وتقل أو تنعدم رغبته في الشر، فبالضرورة مداومتها، والمحافظة عليها على هذا الوجه؛ تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهذا من أعظم مقاصد الصلاة وثمراتها، وثم في الصلاة مقصود أعظم من هذا وأكبر وهو: ما اشتملت عليه من ذكر الله بالقلب، واللسان، والبدن، فإن الله – تعالى- إنما خلق العباد لعبادته، وأفضل عبادة تقع منهم الصلاة، وفيها من عبوديات الجوارح كلها ما ليس في غيرها؛ ولهذا قال: (ولذكر الله أكبر)20.

وقد يصلي المرء بلا خشوع ولا تفكر، فتقوم جوارحه بحركات؛ وقلبه سابح في بحار الدنيا- نسأل الله العافية -، فلا ينتبه إلا وهو في التسليم، فما حال هذا؟ وما خبر قبول صلاته؟ اسمع إلى هذا الحديث العظيم عن عمار بن ياسر – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله   يقول: ((إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها))21

يقول المناوي: “وفي هذا الحديث الحث الأكيد، والحض الشديد؛ على الخشوع والخضوع في الصلاة، وحضور القلب مع الله – تعالى -، ونص على الإتيان للسنن والآداب الزائدة على الفرائض والشرط؛ فإن الصلاة لا تقع صحيحة، ويكتب للمصلي فيها أجرٌ كالعشر والتسع؛ إلا إذا أتى بهما أي: بالفرائض والشروط كاملين، فمتى أخل بفرض أو شرط منها لم تصح،ولم يكتب له أجرٌ أصلاً”22.

وصلاة العبد هي أول ما يحاسب عليه يوم القيامة، وبقبولها وردِّها يكون فلاحه ونجاحه، أو خيبته وخسرانه فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله   يقول: ((إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته؛ فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيءٌ قال الرب – عز وجل -: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة؟ ثم يكون سائر عمله على ذلك))23.

فالله الله في الصلاة، لينظر كل منا في صلاته هل هي صلاة مودع؟ وهل تحضر فيها قلوبنا أم نكتفي بحركات أجسادنا؟

نسأل الله – عز وجل – أن يرزقنا الخشوع في صلاتنا، وأن يتقبل أعمالنا، وأن يجعل أعمالنا كلها صالحة، ويجعلها لوجهه خالصة، وألا يجعل لأحد منها شيئاً، وصلي اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1 سورة الجمعة (2).

2 سورة الأحزاب (45).

3 سورة الأحزاب (46).

4 ابن ماجه (4161)، ، وأحمد (22400)، وأبو نعيم في الحلية (1/444)، وقال الألباني في صحيح ابن ماجه: حسن (3363).

5 البخاري بلفظه (6496)، ومسلم (814).

6 سورة المؤمنون (1-2).

7 رواه النسائي (3316)، وأحمد (13526)، وقال الألباني في مشكاة المصابيح: حسن (3/140).

8 رواه أبو داود (4333)، وأحمد (22009)، وقال الألباني في مشكاة المصابيح: صحيح (1/278).

9 عون المعبود (13/225).

10 سورة الأنفال (2).

11 سورة الزمر (23).

12 سورة الأنعام (88).

13 سورة المائدة (16).

14 تفسير السعدي (1/723).

15 مسلم (598).

16 إحياء علوم الدين (1/151).

17 التبصرة (1/377).

18 إحياء علوم الدين (1/151).

19 سورة العنكبوت (45).

20 تفسير السعدي (1/632).

21 أبو داود (675)، وأحمد (18122)، وقال الألباني: حسن، انظر صحيح أبي داود (1/151).

22 فيض القدير (2/333).

23 الترمذي (378)، والنسائي (462)، وأبو داود (733)، وابن ماجه (1415)، والدارمي (1321)، وأحمد (9130)، وقال الألباني: صحيح، وانظر مشكاة المصابيح (1/297).