إيثار المسجد الذي تقل فيه البدع
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، الملك الحق المبين، القائل في كتابه الكريم: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَفِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}1، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الكرام وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
المعلوم لدى كثير من عقلاء المسلمين أن بيوت الله – تبارك وتعالى – ذات أهمية عظمى عند المسلمين، ولأجل ذلك حَرِصَ النبيﷺ على بنائها أينما حلَّ، فبنى مسجد قباء قبل وصوله إلى المدينة، وكان أول عمل قام به ﷺ عند وصوله إلى المدينة هو بناء المسجد النبوي.
ولما كان للمساجد هذه الأهمية؛ فقد خصصت الشريعة الإسلامية لها آداب وأحكام عديدة؛كما جاء النهي عن رفع الصوت فيها، أو إنشاد الضوال.
وجدير أن ننوه إلى ما يقع في بعض المساجد من أعمال هي من البدع المحدثة كإقامة الموالد، وإنشاد القصائد الشركية فيها، والاستغاثة بغير الله – تبارك وتعالى -؛ وهذا كله بعيد كل البعد عن السُنَّة الشريفة، والسؤال هو: كيف يفعل المسلم إذا كان قريباً من مسجد تقع فيه هذه الأمور، وهل له أن يصلي فيه أم يذهب إلى مسجد آخر تخف فيه البدع؟ أم يترك صلاة الجماعة بالكلية حالة لم يكن قريباً منه مسجد آخر خال من هذه البدع؟
والجواب هو: أنه إذا وجد ذلك فيتعين عليه حضوره مع البعد عن البدع وأهلها لما وردفي النهي عن مجالستهم وفي البعد عنهم، وعن كلامهم، وفي ذلك يقول ابن الحاج – رحمه الله -: “ينبغي للمحافظ على إظهار معالم الشرع، والنهوض إليها؛ أن يبادر إلى الصلوات الخمس في المسجد في جماعة، فإن لم يكن في المسجد شيء يتخوف منه – أعني من البدع – فلينظر أيهما أفضل له: هل المقام في المسجد، والرجوع إلى بيته؛ بحسب الأعمال التي تنوبه في المسجد، أو في بيته، فأيهما
كان أفضل، وأكثر نفعاً؛ بادر إلى فعله سيما إذا كان النفع متعدياً، وإن كان يتخوف من شيء فيه فالرجوع إلى بيته أفضل … ثم قال – رحمه الله -: فلا يترك الصلاة في جماعة في المسجد لأجل ما حدث من البدع، إذ إن الصلوات الخمس من معالم الدين، ومن أعظم شعائر الإسلام، وهي أول ما ابتدئ به من عبادة الأبدان، وليس من شرط صلاته أن تكون في المسجد الجامع بل حيثما قلّت البدع من المسجد كانت الصلاة فيه أولى وأفضل من غيره، فإن لم يجد مسجداً سالماً مما ذكر – وقلَّ ما يقع ذلك -؛ فلينظر إلى أقل المساجد بدعاً فليصل فيه عداه، مع أنه قد تكون بدعة واحدة أشد من بدع جملة فليحذر من هذا وأشباهه، وليصل فيما عداه، وإذا صلى مع ذلك فليحذر جهده، ويغير ما استطاع بشرطه، ومعلوم أن التغير بالقلب أدنى مراتب التغيير”2.
وهذا الكلام لأنه قد يأنس قلبه بتلك البدع فيؤول إلى ترك التغيير، وكما تقدم أن الإنكار بالقلب هو أدنى مراتب التغيير كما ثبت ذلك في حديث: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان))3، وقال ابن الحاجب – رحمه الله -: “قال أبو الحسن الزيات – رحمه الله تعالى -: والله ما أبالي بكثرة المنكرات والبدع، وإنما أبالي وأخاف من تأنيس القلب بها؛ لأن الأشياء إذا توالت مباشرتها اشتهتها النفوس، وإذا أنست النفوس بشيء قلَّ أن تتأثر له”4،
وعلى هذا فواجب على من ذهب إلى مسجد يوجد فيه بدع أن ينكر على أصحابها بالحكمة، فإن لم يستطع إنكار المنكر فلا يعود إليهم، وليبحث عن مسجد آخر لا توجد فيه بدعة ليصلي فيه، أو مسجد تكون البدعة فيه أخف من الأول، لأنه يُخاف عليه أن يستحسن شيئاً مما يراه ويسمع به، وهذا بداية المخالفة العظيمة، حيث سيستحسن شيئاً لم يشرعه الله – تبارك وتعالى -، وقد أخبر النبي ﷺ عن هذا كما في الصحيحين من حديث عائشة – رضي الله عنها -: قال رسول الله ﷺ : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))5،
وفي رواية لمسلم – رحمه الله -: قال ﷺ : ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))6، فإذا خشي على نفسه هذا الأمر (وهو استحسان شيء من البدع) فعليه أن لا يأتي إلى هذا المسجد، بل عليه أن يرتكب أخف الضررين، حيث المفسدة الأولى هي: التخلف عن الصلاة جماعة في المسجد مع أنها على القول الراجح واجبة، والمفسدة الثانية هي: الحضور في المسجد، ورؤية المنكرات أمامه بدون إنكار، وربما استحسن شيئاً منها، والله – تبارك وتعالى – أعلم.
والبدع ضررها عظيم، كما أن التمسك بالسنة فيه النجاة، وقد بين لنا النبي ﷺ كل ذلك في حديث العرباض بن سارية – رضي الله عنه -: “وعظنا رسول الله ﷺ موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، قلنا: يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال: ((قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعليكم بالطاعة، وإن عبداً حبشياً، عضوا عليها بالنواجذ، فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما انقيد انقاد))7.
ولا زالت المساجد تربي الرجال الصادقين حتى يرث الله – تبارك وتعالى – الأرض ومن عليها، إذ هي بيوت الله – تبارك وتعالى -، والرجال لا يتربون حق التربية إلا فيها، ممن نشئوا في المساجد، وتعلقت قلوبهم بها، فكانوا من خير البشرية، وهم الذين سيعيدون للأمة مجدها وعزتها وكرامتها، هذه هي المساجد التي يعظم الله – تبارك وتعالى – فيها، أما مساجد البدع وأهلها فلا يربون الناس إلا على مخالفة الكتاب والسنة، ولا يزيدون الأمة إلا وبالاً وخسارةً وانحطاطاً، فهل تعي أمة الإسلام هذه الحقائق.
نسأل الله – تعالى – أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يردهم رداً جميلاً إلى الحق، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله.
1 سورة النور (36).
2 المدخل لابن الحاجب (1/305-307) بتصرف يسير.
3 رواه مسلم برقم (49).
4 المدخل لابن الحاج (1/48).
5 رواه البخاري برقم (2550)؛ ومسلم برقم (1718).
6 رواه مسلم برقم (1718).
7 رواه ابن ماجة برقم (43)؛ وأحمد في المسند برقم (17182)، وقال شعيب الأرناؤوط: حديث صحيح بطرقه وشواهده وهذا إسناد حسن؛ وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة برقم (41).