خطر اللسان
الحمد لله المتفضل بالنعم، الغفور الرحيم لمن تاب إليه وأناب، تفضل بالكثير علينا، وقَبِلَ اليسير، لا شريك له ولا رب سواه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فإن اللسان نعمة عظيمة أنعم الله بها على بني آدم، فيه المنطق والبيان، وبه تتضح الحجة والبرهان: {خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}1، واللسان يعتبر سلاح ذو حدين، فبه يكون ذكر الله – عز وجل-، وقراءة القرآن، وبه تكون الغيبة والنميمة، والقذف والبهتان والعياذ بالله – عز وجل -، وسنذكر بعضاً من الأدلة من الكتاب والسنة على أن الإنسان مسؤول عن كل كلمة يقولها، وبيان خطر اللسان.
عبدالله: هل قرأت القرآن ومرّ بك قول الله – عز وجل – {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}2، هل تفكرت أخي الكريم في هذه الآية؟ إنها الضابط الشرعي، والواعظ الكبير {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}3.
أسمعت يا عبد الله؟ إنها رقابة شديدة، دقيقة رهيبة، تطبق عليك إطباقاً شاملاً كاملاً، لا تـُغفل من أمرك دقيقاً ولا جليلاً، ولا تفارقك كثيراً ولا قليلاً، كل نفَس معدود، وكل هاجسة معلومة، وكل لفظ مكتوب، وكل حركة محسوبة، في كل وقت، وكل حال، وفي أي مكان، عندها قل ما شئت، وحدث بما شئت، وتكلم فيمن شئت، ولكن اعلم أن هناك من يراقبك، اعلم أن هناك من يسجل عليك، وأنه يعد عليك الألفاظ: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.4
إنها تعنيني وتعنيك أخي في الله {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} هذه الآيات والله إنها لتهز النفس هزاً، وترجها رجاً، وتثير فيها رعشة الخوف، نعم إنه الخوف من الله – عز وجل -.
واسمع لواعظ الله – عز وجل – يقرع سمعك بآياته، وتهز قلبك إن كان قلباً مؤمناً يخاف الله – عز وجل-: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}5، وقال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً}6، وقال: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}7، وقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}،8 وأخيراً قوله – تعالى -: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}9، فربك راصد ومسجل لكلماتك، ولا يضيع عند الله شيء، فيا أيها المظلوم أما آن لك أن تطمئن بهذه الآية فلا تخف ولا تجزع، فإن ربك بالمرصاد، لمن أطلقوا العنان لألسنتهم في أعراض العباد، بالمرصاد للطغاة والمفسدين، فلا تجزع ولا تحزن أخي في الله قال الله – تعالى -: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}10، وقال: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ}11، وقال: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا}12.
ولتزدادَ بيّنة وعلماً في خطر هذا اللسان الذي بين لحييك استمع لهذه الأحاديث باختصار:
– عن أبي هريرة – رضي الله عنه -: عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفع الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم))13.
– وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق))14 متفق عليه، وفي رواية لمسلم: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب))15، ومعنى "ما يتبين فيها" أي: لا يتدبرها ويتفكر في قبحها، ولا يخاف ما يترتب عليها، وهذه كالكلمة عند السلطان وغيره من الولاة، وكالكلمة يقذف بها، أو معناه كالكلمة التي يترتب عليها إضرار مسلم كشهادة الزور وغير ذلك، وكم من أناس شغلهم الشاغل في مجالسهم وهمهم الأكبر فلان وفلان، همهم بث الكلمات، ونشر الشائعات، وكم من كلمة قصمت ظهر صاحبها وهو لا يعلم، ولا شك أن فساد المجالس بسبب قلة العلم والاطلاع، وقد ضمن النبي – عليه الصلاة والسلام – الجنة لمن حفظ لسانه عن البذاءة والفحش فعن سهل بن سعد – رضي الله عنه – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة))16، وروي عنه بلفظ: ((من توكل لي ما بين رجليه وما بين لحييه توكلت له بالجنة))17.
– وفي حديث معاذ الطويل قال – رضي الله عنه – قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبرك برأس الأمر كله، وعموده وذروته، وسنامه؟ قلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه قال: كف عليك هذا، فقلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون مما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟))18، وبعض الناس قد يجهل أنه سيؤاخذ بكل كلمة تكلم بها سواءً خيراً أو شراً.
– وفي حديث سفيان بن عبد الله – رضي الله عنه – قال في آخره: ((قلت: يا رسول الله ما أخوف ما تخاف عليّ؟ فأخذ بلسان نفسه وقال: هذا))19.
– ثم يوجه النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – لأمته قاعدة شرعية ومعياراً دقيقاً لمن اختلطت عليه الأوراق، ويرشده إلى قطع الشك باليقين ليسلم من الحيرة والتردد فيقول كما في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت))20.
فانظر أخي الكريم إلى التربية النبوية من النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم -، وربط القلوب باليوم الآخر، ولما غفلت النفوس اليوم عن اليوم الآخر، وتعلقت بالدنيا وشهواتها ولذاتها، وغفلت عن التربية النبوية، ونسيت الحساب والعذاب، ونسيت الجنة والنار وغفلت عنها… إلخ؛ انطلق اللسان في لحوم العباد وأعراضهم بدون ضوابط ولا خوفٍ ولا مراقبة.
أخي الكريم: اعلم أنه لا يصح أبداً أن يؤذي المسلم إخوانه المسلمين بلسانه، ولأن المسلم الصادق المحب الناصح هو من سلم المسلمون من لسانه ويده كما ورد ذلك في السنة من حديث عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه))21، والأحاديث في الباب كثيرة مستفيضة.
وأخيراً: كم نحن بحاجة لمن يردد هذه الأحاديث على مسامع الناس، وكم نحن بحاجة لمن يذكر الناس بأمثال هذه الأحاديث ليتذكروها ويعوها، وليفهموها جيداً، حتى تتذكر النفس كلما أراد اللسان أن ينطلق بكلمة أن تحسب لها حسابها قبل أن تلفظ بهذه الكلمات.
نسأل الله العظيم بمنِّه وكرمه أن يحفظ ألسنتنا من الكذب والغيبة والنميمة، ومن الكلام إلا في الخير، وأن يحفظ جوارحنا عن الحرام إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
1 سورة الرحمن (3-4).
2 سورة قّ (18).
3 سورة قّ (37).
4 سورة قّ (17-18).
5 سورة الانفطار (12).
6 سورة الأحزاب (58).
7 سورة الإسراء (36).
8 سورة النور (24).
9 سورة الفجر (14).
10 سورة الزلزلة ( 7-8).
11 سورة الأنبياء (94).
12 سورة النساء (110).
13 رواه البخاري (5/2377) برقم (6113).
14 صحيح البخاري (5/2377) برقم (6221)؛ وصحيح مسلم (4/2290) برقم (2988).
15 رواه مسلم (4/2290) رقم (2988) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -.
16 رواه البخاري (5/2376) برقم (6109).
17 رواه البخاري (6/2497) برقم (6422).
18 رواه الترمذي (5/11) رقم (2616) قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح؛ وأحمد بن حنبل في المسند (5/231) برقم (22069)؛ وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (2/138) برقم (413)؛ وصحيح وضعيف سنن الترمذي (6/116) برقم (2616)؛ والسلسلة الصحيحة (3/114) برقم (1122)، وقال: صحيح بمجموع طرقه.
19 رواه الترمذي في سننه (4/607) برقم (2410)؛ ومسند أحمد بن حنبل (3/413) برقم (15457)، وقال شعيب الأرناؤوط: حديث صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/56) برقم (2862).
20 رواه البخاري (5/2240) برقم (5672)؛ ومسلم (1/68) برقم (47).
21 رواه البخاري (1/13) برقم (10)، وبرقم (6119)(5/2379)؛ ومسلم (1/65) برقم (41).