وفـد دوس

وفـد دوس

 

الحمد لله الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور، وبصرهم بدين الحق وأسباب السعادة والسرور، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة فهي لهم في الحياة الدنيا خالصة يوم النشور، والصلاة والسلام على نبينا محمد الداعي إلى معالي الأمور، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان في الغدو والبكور، أما بعد:

فقد بعث الله نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- على حين فترة من الرسل، فبلغ البلاغ المبين، ونصح النصح الكافي الشافي لما في الصدور، وهدى الله على يديه الناس فأخرجهم من ظلمات الشرك والوثنية والجور والظلم والفجور، إلى نور التوحيد والإسلام والعدل والقسط والطهور، وامتن الله عليه بذلك وعلى المسلمين بقوله: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (164) سورة آل عمران،  وتبعه في حياته أناس كثر، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.

وكان ممن استجاب لنداء الله تعالى أهل دوس، فجاء وفدهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ممثلاً بالطفيل بن عمرو الدوسي -رضي الله عنه-. وكان ذلك في غزوة خيبر.

قال ابن إسحاق: كان الطفيل بن عمرو الدوسي يحدث أنه قدم مكة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها فمشى إليه رجال من قريش، وكان الطفيل رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً، قالوا له: إنك قدمت بلادنا وإن هذا الرجل -وهو الذي بين أظهرنا- فرق جماعتنا وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين المرء وابنه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وإنما نخشى عليك وعلى قومك ما قد حل علينا، فلا تكلمه ولا تسمع منه، قال: فو الله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً ولا أكلمه، حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفاً فرقاً من أن يبلغني شيء من قوله. قال: فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يصلي عند الكعبة، فقمت قريباً منه فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، فسمعت كلاماً حسناً فقلت في نفسي: واثكل أمياه والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان ما يقول حسناً قبلت وإن كان قبيحاً تركت. قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بيته فتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت: يا محمد إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا، فوا الله ما برحوا يخوفوني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعنيه فسمعت قولاً حسناً فاعرض علي أمرك، فعرض علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإسلام وتلا علي القرآن، فلا والله ما سمعت قولاً قط أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت: يا نبي الله إني امرؤ مطاع في قومي وإني راجع إليهم فداعيهم إلى الإسلام، فادع الله لي أن يجعل لي آية تكون عوناً لي عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال: (اللهم اجعل له آية) قال: فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر وقع نور بين عيني مثل المصباح، قلت: اللهم في غير وجهي، إني أخشى أن يظنوا أنها مثلة وقعت في وجهي لفراقي دينهم، قال: فتحول فوقع في رأس سوطي كالقنديل المعلق! وأنا أنهبط إليهم من الثنية حتى جئتهم وأصبحت فيهم، فلما نزلت أتاني أبي وكان شيخاً كبيراً فقلت: إليك عني يا أبت فلستَ مني ولستُ منك، قال: لم يا بني؟ قلت: قد أسلمت وتابعت دين محمد. قال: يا بني فديني دينك. قال: فقلت: اذهب فاغتسل وطهر ثيابك ثم تعال حتى أعلمك ما علمت. قال: فذهب فاغتسل وطهر ثيابه ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم، ثم أتتني صاحبتي فقلت لها: إليك عني فلست منك ولست مني. قالت: لم بأبي أنت وأمي؟ قلت: فرق الإسلام بيني وبينك، أسلمت وتابعت دين محمد. قالت: فديني دينك. قال قلت: فاذهبي فاغتسلي، ففعلت ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت، ثم دعوت دوساً إلى الإسلام فأبطئوا علي فجئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله إنه قد غلبني على دوس الزنا فادع الله عليهم، فقال: (اللهم اهد دوساً)1 ثم قال: "ارجع إلى قومك فادعهم إلى الله وارفق بهم" فرجعت إليهم فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الله، ثم قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر، فنزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتاً من دوس، ثم لحقنا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر، فأسهم لنا مع المسلمين، ثم لم أزل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى فتح الله عليه مكة. فقلت: يا رسول الله ابعثني إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه، قال ابن اسحاق: فخرج إليه فجعل الطفيل وهو يوقد عليه النار يقول:

يا ذا الكفين لست من عبادكا … ميلادنا أقدم من ميلادكا

إني حشوت النار في فؤادكا

قال: ثم رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان معه بالمدينة حتى قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

قال ابن إسحاق: فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب خرج الطفيل مع المسلمين حتى فرغوا من طليحة، ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة ومعه ابنه عمرو بن الطفيل فقال لأصحابه: إني قد رأيت رؤيا فاعبروها لي، رأيت أن رأسي قد حلق وأنه قد خرج من فمي طائر وأن امرأة لقيتني فأدخلتني في فرجها، ورأيت أن ابني يطلبني طلباً حثيثاً ثم رأيته حبس عني. قالوا: خيراً رأيت. قال: أما والله إني قد أولتها. قالوا: وما أولتها؟ قال: أما حلق رأسي فوضعه، وأما الطائر الذي خرج من فمي فروحي، وأما المرأة التي أدخلتني  في فرجها فالأرض تحفر فأغيب فيها، وأما طلب ابني إياي وحبسه عني فإني أراه سيجهد لأن يصيبه من الشهادة ما أصابني. فقتل الطفيل شهيداً باليمامة، وجرح ابنه عمرو جرحاً شديداً ثم قتل عام اليرموك شهيداً في زمن عمر رضي الله عنه.

فوائد من القصة:

قال ابن القيم رحمه الله:

"فيها: أن عادة المسلمين كانت غسل الإسلام قبل دخولهم فيه، وقد صح أمر النبي صلى الله عليه وسلم به. وأصح الأقوال وجوبه على من أجنب في حال كفره ومن لم يجنب.

وفيها: أنه لا ينبغي للعاقل أن يقلد الناس في المدح والذم ولا سيما تقليد من يمدح بهوى ويذم بهوى، فكم حال هذا التقليد بين القلوب وبين الهدى، ولم ينج منه إلا من سبقت له من الله الحسنى.

ومنها: أن المدد إذا لحق بالجيش قبل انقضاء الحرب أسهم لهم.

ومنها: وقوع كرامات الأولياء وأنها إنما تكون لحاجة في الدين أو لمنفعة للإسلام والمسلمين، فهذه هي الأحوال الرحمانية سببها متابعة الرسول، ونتيجتها إظهار الحق وكسر الباطل، والأحوال الشيطانية ضدها سبباً ونتيجة.

ومنها: التأني والصبر في الدعوة إلى الله، وأن لا يعجل بالعقوبة والدعاء على العصاة.

وأما تعبيره حلق رأسه بوضعه، فهذا لأن حلق الرأس وضع شعره على الأرض وهو لا يدل بمجرده على وضع رأسه، فإنه دال على خلاص من همٍّ أو مرض أو شدة لمن يليق به ذلك، وعلى فقر ونكد وزوال رياسة وجاه لمن لا يليق به ذلك، ولكن في منام الطفيل قرائن اقتضت أنه وضع رأسه، منها: أنه كان في الجهاد ومقاتلة العدو ذي الشوكة والبأس. ومنها: أنه دخل في بطن المرأة التي رآها وهي الأرض التي هي بمنزلة أمه، ورأى أنه قد دخل في الموضع الذي خرج منه، وهذا هو إعادته إلى الأرض، كما قال تعالى: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم} طه : 155، فأول المرأة بالأرض إذ كلاهما محل الوطء، وأول دخوله في فرجها بعوده إليها كما خلق منها، وأول الطائر الذي خرج من فيه بروحه، فإنها كالطائر المحبوس في البدن، فإذا خرجت منه كانت كالطائر الذي فارق حبسه فذهب حيث شاء؛ ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، وهذا هو الطائر الذي رئي داخلاً في قبر ابن عباس لما دفن وسمع قارئاً يقرأ {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية} الفجر 27. وعلى حسب بياض هذا الطائر وسواده وحسنه وقبحه تكون الروح؛ ولهذا كانت أرواح آل فرعون في صورة طيور سود ترد النار بكرة وعشية.

وأول طلب ابنه له باجتهاده في أن يلحق به في الشهادة، وحبسه عنه هو مدة حياته بين وقعة اليمامة واليرموك. والله أعلم.2

ومن الفوائد:

– أن المسلم منذ أن يعرف هذا الدين يكون داعياً إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، وألا يكون عالة على الإسلام والمسلمين، فما أعظم الطفيل -رضي الله عنه- عندما صار داعياً إلى الله من لحظته الأولى.. وإن المؤمن ليتقطع قلبه ألماً وحسرة عندما يرى بعض المسلمين يصدون عن سبيل الله بأفعالهم وأقوالهم، فما أكثر المشوهين للإسلام في الشرق والغرب الذين يمارسون أعمالاً لا تمت إلى الإسلام بصلة، فينقلبون حرباً على الإسلام وأهله.

– الحذر من أهل الباطل الذين يقلبون الحق باطلاً والباطل حقاً، وينفرون الناس عن دين الله، وعن حملة شريعته. ولهذا نجد أن الطفيل -رضي الله عنه- رفض إنذارات قريش وحكَّم عقله الذي وهبه الله إياه، واستمع إلى الحق واهتدى به ودعا إليه. وبعض الناس اليوم يتهرب من الدعاة إلى الله تعالى بسبب ما سمع في الإعلام المروج للشائعات بأن هؤلاء أصوليون ورجعيون، فتراه لا يقترب منهم إلا على حذر، ولو عرف حقيقة دعوتهم لاهتدى إلى الصواب في زمن طغت فيه الماديات والأهواء. والله المستعان.

– أن الله غالب على أمره ولو كره الكافرون والمشركون والمنافقون، وكما أنه نصر دينه في الماضي أيام الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام وفتح له قلوب الناس، فسوف يأتي اليوم الذي يفتح الناس قلوبهم لهذا الدين لينجوا من عذاب الله تعالى في الدنيا والآخرة، وهذا مصداق حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي قال فيه: (ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الركاب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله، والذئب على غنمه)3. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر)4.

– وجوب هدم الأصنام؛ لأنها تعبد من دون الله تعالى، والذين يتباكون اليوم على هدم التماثيل في بعض البلدان الإسلامية ما هم إلا قوم جاهلون لم يعرفوا حقيقة الإسلام التي أرسل الله محمداً -صلى الله عليه وسلم- لأجلها، فكم هدم -صلى الله عليه وسلم- من صنم حول الكعبة، وكم أمر أصحابه أن يهدموا من أصنام! فهل قال لهم: لا، اتركوها لأصحابها فهذا من حرية العقيدة! هذه الكلمة الجوفاء التي يدندن بها بعض الناس اليوم إنما تخفي وراءها ما تخفي. إن الإسلام هو الإسلام بتوحيده وصفائه ونقائه، ولا مكان للكفر والشرك والوثنية في دياره ما دام مسيطراً عليها، ولا يجوز إبقاء تلك الأوثان تعبد من دون الله تعالى. والقدوة في ذلك إبراهيم عليه السلام الذي كان أمة يمشي على الأرض، فقد هدم أصنام قومه، وما تذرع بكثير من الأسباب الواهية التي يتذرع بها بعض الأئمة المضلين اليوم الذين يتكلمون في شئون الأمة بمصالح وهمية ضررها أكثر من نفعها..

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الداعين إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1 رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

2 زاد المعاد – (ج 3 / ص 545)

3 رواه البخاري.

4 رواه أحمد وهو حديث صحيح.