وسطية الإسلام

وسطية الإسلام

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

الوسطية سمة بارزة من سمات الشرع الحنيف، فهذه الشريعة الربانية متسمة بأنها شريعة السماحة، ورفع الحرج؛ لأنها موافقة للفطرة السليمة للمرء، والإسلام وسط في كل القضايا الدينية، والدنيوية، والعبادات، والمعاملات، ولذا حدد الله – عز وجل – أنه جعل هذه الأمة أمة وسطاً، ومنهجها منهج وسطي فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}1 "إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعاً فتقيم بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم، وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد، وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها، وتقول: هذا حق منها وهذا باطل، وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم، والرسول – صلى الله عليه وسلم – هو الذي يشهد عليها فيقرر لها موازينها وقيمها، ويحكم على أعمالها وتقاليدها، ويزن ما يصدر عنها، ويقول فيه الكلمة الأخيرة، وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها.

وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي {أُمَّةً وَسَطاً} في التصور والاعتقاد، لا تغلو في التجرد الروحي، ولا في الارتكاس المادي، إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد تتلبس به روح، بلا تفريط ولا إفراط، في قصد وتناسق واعتدال {أُمَّةً وَسَطاً} في التفكير والشعور، تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول، ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب، وشعارها الدائم "الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها" في تثبت ويقين".2

مفهوم الوسطية:

"الوسطية هي: تحقيق لمبدأ التوازن الذي تقوم عليه سنة اللَّه في خلقه، وفق نظام رباني، ومشيئة إلهية، ولحكمة أرادها اللَّه – تعالى -، وتقدير مسبق، وثوابت وسنن لا تبديل لها، وهذا التوازن الذي يعني في الوقت نفسه الاعتدال، والتكافؤ بين العناصر والمقومات والمكونات جميعاً، والتكامل فيما بينها؛ هو القاعدة الثابتة للوسطية، وهو الخاصية الجوهرية التي تتميّز بها، فإذا انتفى هذا التوازن فقدت الوسطية عنصرها الأساس؛ لأنها في هذه الحالة تميل مع الأهواء فتصبح تفريطاً أو إفراطاً، وهما بابان من أبواب التطرف في أحد الاتجاهين الإيجابي أو السلبي، وإن كان لا خير في التطرف من حيث هو وإن حسنت النوايا؛ لأنه شرٌّ كلّه، وعاقبته وخيمة في جميع الأحوال"3.

مظاهر الوسطية:

إننا حين نتكلم عن مظاهر الوسطية في الإسلام؛ نتكلم عن أمور كثيرة، ومتغلغلة في جميع شعائر الدين وفرائضه، ولو تحدثنا عنها لذكرنا كل ما يتعلق عن الإسلام من عقائد، وأحكام، وعبادات، ومعاملات، وعلاقات… الخ، ولكنا في مقام لا يتسع لذكرها وسردها، بل لذكر القليل مما في شرائع الإسلام الواسعة، وأحكامه الشاملة التي تشمل حياة الإنسان كلها.

فمن مظاهر الوسطية:

أولاً: وسطية الإسلام في التشريع: ويبرز ذلك من خلال عدة أمور في الشريعة منها:

1.  التدرج في التشريع: ولعل من رحمة الله – عز وجل – التي جاء بها نبينا محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – أنه كان لا يحمل الناس على الأحكام جملة واحدة، إنما كان مبدؤه التدرج، وقد قُررت في كثير من الأحكام وبخاصة في المحرمات كإزالة الأصنام من حول الكعبة، ومن المعلوم أنها لم تُزَل من الكعبة إلا يوم فتح مكة، وكالخمر الذي من المعلوم أيضاً أنه لم يحرم مرة واحدة بل حرِّم على التدرج {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}4، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ}5، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}6، وغير هذه القضايا من التي حرمها الشرع الحنيف.

وقد سار الشارع الحكيم في القضاء على هذه المحرمات على منهج التدرج في التحريم؛ تهيئة للنفوس، وترويضاً للنفوس على تقبل أحكام الله، وضماناً للاستجابة الكاملة لأحكام الدين، وقد كان هذا التدرج في تشريع حرمة المحرمات مسلكاً من مسالك العلاج الرباني الفريد لحكمة عظيمة، فإن التمهل في استئصال العادات القبيحة المتأصلة في النفوس، والسائدة في المجتمع من الأمور المتوارثة عبر قرون غابرة؛ لهو الحل الأنسب، وهذا الذي ينبغي على الداعية إلى الله – عز وجل – أن يسلكه.

2.  التيسير في الشرائع المفروضة: فإن المتأمل في جميع شرائع الإسلام يجد أنها مبنية على التيسير، بل إن التيسير منهج رباني، ونبوي، وسمة بارزة من سمات هذا الدين، وتتجلى هذه السمة من خلال سيرته – صلى الله عليه وآله وسلم -، وحرصه على التيسير، حيث كان يحث أصحابه على التيسير، ومن النصوص الدالة على أن ديننا دين مبني على التيسير: قوله – عز وجل -: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}7 ، وقوله – تعالى -: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى}8، {مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ}9، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}10، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنْ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ))11، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رضي الله عنه – عَنْ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا))12، بل أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – حين كان يرسل الرسل لدعوة الناس كان يأمرهم بالتيسير فعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ – رضي الله عنه – أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بَعَثَ مُعَاذاً وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ فقَالَ: ((يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا))13 وفي هذه النصوص "الأمر بالتبشير بفضل الله، وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته، والنهي عن التنفير بذكر التخويف، وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير"14، وقد كان النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – مثلاً أعلى في التيسير، فقد كان التيسر ديدنه ومنهجه فعَنْ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – قَالَتْ: "مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا"15، بل أن الشارع الحكيم -وكما قرره الفقهاء – قد جعل من القواعد الكبرى في التشريع أن "المشقة تجلب التيسير".

3.  العدل في التشريع: فالاعتدال يرادف الوسطية التي ميَّز الله بها هذه الأمة قال – تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}16، وقد فسر الرسول – صلى الله عليه وسلم – الوسط بأنه العدل جاء عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يَجِيءُ نُوحٌ وَأُمَّتُهُ فَيَقُولُ اللَّهُ – تَعَالَى -: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، فَيَقُولُ لِأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: لَا مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ، فَيَقُولُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَأُمَّتُهُ، فَنَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، وَهُوَ قَوْلُهُ – جَلَّ ذِكْرُهُ -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِوَالْوَسَطُ الْعَدْلُ17))18، "فإذا جعل الله هذه الأمة شهداء على الناس يوم القيامة، وعدَّلهم الله بقوله {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} أي: عدل، فشهادة العدل مقبولة لا ترد، والحكم به واجب في القضاء، فإذا شهدوا على إنسان بصلاح قبلت شهادتهم، وإن كان الأمر في المغيب غير ذلك، وإذا شهدوا على آخر بفساد قبلت شهادتهم، وإن كان الأمر في المغيب غير ذلك؛ لأن على الحاكم القضاء بشهادة العدول، فهذه الأمة شهود، والله عدلهم، ورسوله – صلى الله عليه وسلم – زكاهم"19.

إن الحديث عن وسطية الإسلام في التشريع حديث طويل؛ لأنه يشمل جميع جوانب التشريع الإسلامي؛ ولأنه ما من شعيرة إلا وهي محفوفة بالوسطية فلا غلو فيها، ولا تفريط فيها.

ثانياً:  وسطية الإسلام في منهج الدعوة: بعد الكلام على الوسطية في التشريع، وذكر بعض جوانبه؛ ينبغي أن نتبعه بالمنهج الوسطي في جلب الناس إلى هذا التشريع، ودعوتهم إليه، فالدعوة إلى الدين الإسلامي لم تكن القوة هي التي توجّه ضد الأفراد، والأنظمة المعادية للإسلام، والتي تمنع عن الناس الدعوة، وتضطهد من يُسْلِم عندها، بل لأن الهدف من هذا الدين هو هداية الناس أجمعين دون أن تقتصر الدعوة على جنس بذاته، أو قوم بذاتهم، أو مكان معين؛ فهي موجهة إلى الناس كافة، ولذا فإن اتباع المنهج السليم الوسطي في الدعوة إليه بالأسلوب الذي يعالج كل ما هو منتشر في أوساط المجتمع مما يخالف شرائع الله؛ مطلوب؛ لأن الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – أرسل رحمة للناس أجمعين، فكان المنهج الذي سار عليه في الدعوة إلى الله منحصراً في نصوص منها: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}20 "على هذه الأسس يرسي القرآن الكريم قواعد الدعوة ومبادئها، ويعين وسائلها وطرائقها، ويرسم المنهج للرسول الكريم – صلى الله عليه وآله وسلم -، وللدعاة من بعده بدينه القويم، فلننظر في دستور الدعوة الذي شرعه الله في هذا القرآن، والدعوة بالحكمة، والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم، فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة؛ فيتجاوز الحكمة في هذا كله، وفي سواه، وبالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق، وتتعمق المشاعر بلطف، لا بالزجر والتأنيب في غير موجب، ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية، فإن الرفق في الموعظة كثيراً ما يهدي القلوب الشاردة، ويؤلف القلوب النافرة، ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ، وبالجدل بالتي هي أحسن بلا تحامل على المخالف، ولا ترذيل له وتقبيح، حتى يطمئن إلى الداعي، ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل، ولكن الإقناع والوصول إلى الحق، فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق حتى لا تشعر بالهزيمة، وسرعان ما تختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس، فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلاً عن هيبتها واحترامها وكيانها، والجدل بالحسنى هو الذي يطمئن من هذه الكبرياء الحساسة، ويشعر المجادل أن ذاته مصونة، وقيمته كريمة، وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها، والاهتداء إليها في سبيل الله، هذا هو منهج الدعوة ودستورها ما دام الأمر في دائرة الدعوة باللسان والجدل بالحجة"21.

إن من الواجب على الداعية أن يكون منهجه في الدعوة هو أعدل المناهج وأوسطها، متبعاً في ذات الوقت هذا القانون الرباني في الدعوة، متمسكاً بكتاب الله – عز وجل -، وسائراً وفق ما سار عليه النبي – صلى الله عليه وآله وسلم -، متقيداً بأمور ينبغي له ولمن تصدر للدعوة التقيد بها، وأن لا تكون غائبة عنه هذه الأمور، وهي:

   التمسك بما أمر الله – عز وجل – في الدعوة {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} وهذا هو المنهج الرباني الذي ينبغي على الداعي السير عليه، وهو المنهج الأحق بالاتباع في كل وقت، وفي أي مكان، مع الالتزام بالدعوة إلى الله – تعالى – على بصيرة وعلم {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}22.

   أن يعلم الداعي أن الهداية بيد الله – تبارك وتعالى -، وأن واجبه هو البلاغ فقط، وهذا هو الذي حدَّه الله -عز وجل – لرسوله – صلى الله عليه وآله وسلم -: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ}23، وقال في آية أخرى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}24 هذا هو حد الداعي، أما الهداية فهي من الله – عز وجل -: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}25.

إن الواجب على الدعاة إلى الله مخاطبة الناس ودعوتهم بمنهاج الوسطية في كافة أمور الدين علماً أو إفتاء أو دعوة؛ لأن الدين في أصله يرفض الغلو، والتنطع، والتطرف في كل جوانبه، مع عدم استعجال الداعية في قطف الثمر، ولا يحمله عدم استجابة المدعوين إلى التضجر، وترك دعوتهم، والسخط عليهم، وتتبع أخطاؤهم.

ثالثاً: وسطية الإسلام في السلوك والأخلاق التي يدعو إليها، ويحارب ما يضادها: فقد عجز الإنسان قبل الإسلام أن يوجد له نظاماً يدير به نفسه، ويهذب عقله، ويكمل أخلاقه الفاضلة، ويبعده عن الأخلاق الفاسدة، وحين ظهر الإسلام وقف موقف "الوسط في الأخلاق بين غلاة المثاليين الذين تخيلوا الإنسان ملاكاً، أو شبه ملاك، فوضعوا له من القيم والآداب ما لا يمكن له، وبين غلاة الواقعيين الذين حسبوه حيواناً أو كالحيوان، فأرادوا له من السلوك ما لا يليق به، فأولئك أحسنوا الظن بالفطرة الإنسانية فاعتبروها خيراً محضاً، وهؤلاء أساءوا بها الظن فعدوها شراً خالصاً، وكانت نظرة الإسلام وسطاً بين أولئك وهؤلاء"26، ولذا فإن الله – عز وجل – قد جعل لهذه الأمة أكمل الأخلاق، بل أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – حدد أن حسن الخلق من كمال الدين فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقاً))27، وإن من الأخلاق التي جاء الإسلام بها أن أوجب الصدق، والحفاظ على الأمانة، وحرم الكذب، والغش، وشرب الخمر، والزنا، وكل ما يفسد القيم، وأباح التعامل بالبيع والشراء، وسائر أنواع المعاملات، وحرم التعامل بالربا، والتطفيف، والغرر؛ ليكون المجتمع مجتمعاً متحلياً بكل القيم والمُثُل العليا.

كيف نحقق الوسطية:

وهنا قد يسأل سائل: كيف تتحقق الوسطية مع هذه الاختلافات المتعددة؟، وهذا السؤال مهم خاصة في هذه الفترة التي انقسم الناس فيها إلى ثلاثة أقسام: فقسم يدعي الوسطية وهو في الوقت ذاته واقع في الغلو المذموم، وقسم يدعي الوسطية وهو واقع في التساهل المشؤوم، وقسم هو الذي على الحق فهو محقق للوسطية.

وإن ما يحقق الوسطية في المجتمع أمور من تمسك بها فقد حقق الوسطية على الوجه المطلوب، أهمها وأعظمها هو:

   التمسك بكتاب الله – عز وجل – وسنة رسوله – صلى الله عليه وآله وسلم – فهما الواقيان من الوقوع في الخطأ، والخروج عن الصراط الذي ارتضاه الله لعباده، وارتضاه رسوله – صلى الله عليه وآله وسلم – لأمته.

   تأصيل مفهوم الوسطية في النفوس من خلال المناهج الدراسية، ومنابر المساجد، والبرامج الإعلامية عبر وسائل الإعلام، والندوات…الخ.

       تحقيق معنى الوسطية على النفوس، وعلى كل راع بمختلف الفئات.

   على العلماء إيضاح معالم الدين، وأنه دين يدعو إلى الوسطية والاعتدال والتسامح، ويبعد كل البعد عن الغلو والتطرف، وأن الإسلام له روح يتميز بها هي روحية التسامح الإسلامي التي يبشر بها كل أتباعه من  سياسيين، وعلماء، ومفكرين، تلك الروحية المنفتحة، الروحية المتسامية المتسامحة، الروحية التي تستوعب المستجدات، وتتعامل بحضارية مع طوارئ العصر، وتعزز قيمة الوسطية في سلوك  أفراده ومعتقداتهم، ومشاعرهم، وتصرفاتهم، إلا أن هذا لا يعني التمييع للدين، والتنازل عن الثوابت والمسلَّمات باسم الوسطية والاعتدال، فإن الإسلام جاء ليرفع عن الناس الإصر والأغلال والمشقة، ويضمن لهم حياة طيبة ملؤها السعادة والاستقرار، والله – عز وجل – يبين في أكثر من موضع أن هذا لدين دين يوافق الفطرة، ودين عدل ووسط، وينافي الغلو والتطرف والتنطع، والنبي – صلى الله عليه وآله وسلم – أكد هذا المفهوم، فهو الذي ما كان يخيَّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ومن هنا تأتي أهمية موضوع الوسطية في الإسلام، وأن الإسلام دين السماحة، فأين المسلمين من فهم هذا الدين؟، وما أحوج الأمة إلى فهم دينها كما أمرها الله – تبارك وتعالى -، ودلها عليه رسوله – صلى الله عليه وسلم -، فبكتاب الله – عز وجل -، وسنة رسوله – عليه الصلاة والسلام – نحقق الدين، ونقيم شعائره على الوجه المطلوب شرعاً دون غلو وتطرف، ودون إفراط أو تفريط.

نسأل الله – عز وجل – أن يهدينا سواء السبيل، وأن يعلي راية الدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.


1 سورة البقرة (143).

2 في ظلال القرآن (1/100).

3 وسطية الإسلام وسماحته ودعوته للحوار (1/11)بتصرف.

4 سورة البقرة (219).

5 سورة النساء (43).

6 سورة المائدة (90).

7 سورة البقرة (185).

8 سورة الأعلى (8).

9 سورة المائدة (6).

10 سورة الحج (78).

11 البخاري (38).

12 البخاري (67)، ومسلم (3264).

13 البخاري (2811)، ومسلم (3236).

14 شرح النووي على مسلم (6/170).

15 البخاري (2811)، ومسلم (3236).

16 سورة البقرة (143).

17 البخاري (3091).

18 بحوث ندوة أثر القرآن في تحقيق الوسطية ودفع الغلو (1/5).

19 بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخيار للكلاباذي (1/477).

20 سورة النحل (125).

21 في ظلال القرآن (4/497-498) بتصرف.

22 سورة يوسف (108).

23 سورة الشورى (48).

24 سورة العنكبوت (18).

25 سورة القصص (56).

26 موسوعة البحوث والمقالات العلمية (1/1).

27 الترمذي (1082)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي (3/162).