النصيحة وحكمها

 

 

النصيحة وحكمها

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

فإن الكلمة الصادقة، والنصيحة المباشرة المخلصة؛ ستظل تحتل مكانة عالية، وأساساًعظيماً في عالم الدعوة إلى الله – تبارك وتعالى -، فلقد كان تقديم النصيحة رسالة كل رسل الله – عليهم السلام -، فقد ذكر الله – تبارك وتعالى – في القرآن الكريم على لسان نوح – عليه السلام – قوله لقومه: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وأَنصَحُ لَكُمْ وأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}1، وقال سبحانه على لسان هود – عليه السلام -: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}2، وقال سبحانه على لسان صالح – عليه السلام -: {يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي ونَصَحْتُ لَكُمْ}3، وقال سبحانه على لسان شعيب – عليه السلام -: {لَقَدْأَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي ونَصَحْتُ لَكُمْ}4.

وقد أشار النبي   إلى تلك المكانة العليا للنصيحة؛ حيث حصر وعرَّف الدين بأنه النصح للمسلمين فعن تميم الداري – رضي الله عنه – أن النبي   قال: ((الدين النصيحة)) قلنا: لمن؟ قال: ((لله،ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعاماتهم))5، كما أنه   لما أخذ البيعة من الصحابة – رضوان الله عليهم – قدضمَّنها أفعالاً ثلاثة كما جاء عن جرير بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: ((بايعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم))6.

وقال الله – تبارك وتعالى -: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَاأَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}7، وقال سبحانه: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}8، وقال الله مادحاً عباده المؤمنين؛ واصفاً لهم، فجعل من صفاتهم أنهم آمرون بالمعروف، ناهون عن المنكر، وهذا من النصيحة: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}9، وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}10، وقال الله سبحانه ذاماً المنافقين: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}11، وقال سبحانه حاصراً الخيرية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}12، وقال: {يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِوَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}13، وقال:{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}14، وقال: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}15، وقال سبحانه: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ }16، وقد كانت النصيحة حتى في الأمم السابقة قال الله – تبارك وتعالى -: {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}17، وقال: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}18وغير ذلك من الآيات كثير.

وينبغي للناصح الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر؛ أن يكون مراعياً لبعض الآداب التي يتصف بها ومنها:

1- الإخلاص لله – تبارك وتعالى -: فينبغي على الإنسان أن يقصد بنصحه وجه الله -تبارك وتعالى -، وإدراك الأجر من الله – تعالى – كما في حديث ابن عمر – رضي الله عنهما -: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى…))19الحديث.

2- ألا يقصد بنصحه التشهير: فهذه آفة يقع فيها كثير من الناس، فتراه يخرج النصيحة بأسلوب خشن جاف، ولذلك ورد في السنة أن النبي  كان يقول: ((ما بال أقوام …)) كما في حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: “صنع النبي   شيئاً فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي   فخطب فحمد الله، ثم قال: ((ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية))20،

وقال   كما في حديث أنس – رضي الله عنه-: ((ما بال أقوام قالوا كذا وكذا))21وغير ذلك من الأحاديث.

3- أن يكون النصح في السر: وفي ذلك يقول الشافعي: “من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه”22، وقال – رحمه الله -:

تعمدني بنصحك في انفراد    وجنبني النصيحةفي الجماعـة
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت أمري    فلا تجزع إذا لم تعط طاعـة23

فاحرص أخي الكريم على هذا الأدب العظيم.

4- أن يكون النصح بلطف وأدب ورفق: كما في حديث عائشة – رضي الله عنها – أن النبي   قال: ((ما كان الرفق في شيء قط إلا زانه، ولا عزل عن شيء إلا شانه))24، وثبت عن أنس – رضي الله عنه – عن النبي   قال: ((ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان الفحش في شيء قط إلا شانه))25، فينبغي على الإنسان في نصحه أن يكون رفيقاً، وألا يثقل على الناصح ولا يكثر عليه، لطيفاً رقيقاً في نصحه لغيره، وهذا مما يجعل المنصوح يتقبل تلك النصيحة بنفس منشرحة.

حكم النصيحة:

في الأصل أنها فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخر، وقد تكون فرض عين وذلك في الأحوال التالية:

1- إذا طلب منك أخوك كما في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -: أن رسول الله   قال: ((حق المسلم على المسلم ست، قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبع))26 قوله: وإذا استنصحك: أي طلب منك النصيحة، فانصحه: وهذا دليل على وجوب نصيحة من يستنصحه، وعدم الغش له، والله أعلم.

2- عند رؤية المنكر الذي سكت عنه الناس وعلمته أنت بحيث لا يترتب على إنكاره منكر أكبر كما قال النبي  : ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان))27، وقوله فليغيره: أمر، والأمر دليل على الوجوب.

3- عند علم الإنسان بالخطر الذي لا يعلمه غيره، ولا يتفطن له إلا هو، ويعني ذلك أنه إن كان لا يعرف هذا المنكر إلا هو؛ فهنا وجب عليه النصح وجوباً عينياً قال – تعالى-: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَإِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}28، ولما كان النبي   هو وحده الذي يعلم هذا الخير؛ تعين عليه بلاغه، قال الإمام النووي – رحمه الله -: “قد يتعين – أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أولا يتمكن من إزالته إلا هو، وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر أو تقصير في المعروف”29.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يوفقنا للقيام بواجب النصح على ما يريد بمنِّه وكرمه، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يجنبنا الزلل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1 سورة الأعراف (62).

2 سورة الأعراف (68).

3 سورة الأعراف (79).

4 سورة الأعراف (93).

5 رواه مسلم في صحيحه رقم (55).

6 رواه البخاري برقم (2565)؛ ومسلم في صحيحه برقم (56).

7 سورة لقمان (17).

8 سورة الحج (41).

9 سورة التوبة (112).

10 سورة التوبة (71).

11 سورة التوبة (67).

12 سورة آل عمران (110).

13 سورة آل عمران (114).

14 سورة آل عمران (104).

15 سورة الأعراف (21).

16 سورة الأعراف (79).

17 سورة القصص (20).

18 سورة هود (34).

19 رواه البخاري برقم (1).

20 رواه البخاري برقم (5750).

21 رواه مسلم برقم (1401).

22 شرح النووي على مسلم (2/24).

23 ديوان الإمام الشافعي (96).

24 رواه أحمد في المسند برقم (25750)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.

25 صححه ابن حبان في صحيحه برقم (551)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح؛ وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته برقم (10591)؛ وفي صحيح الجامع برقم (5654).

26 رواه مسلم برقم (2162).

27 رواه مسلم برقم (49).

28 سورة المائدة (67).

29 شرح النووي على مسلم (2/23).