صنائع المعروف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
لا يخفى على المرء ما لصانع المعروف من أجر عظيم، وثواب كبير، يمنحه العلي الكبير جزاءً لما صنع، ومقابل ما عمل وأبدع، لأن المعروف لا يُقبِل على عمله إلا من وفقه الله – تعالى -، والمعروف كل خير يعمله المسلم حتى الكلمة الطيبة معروف، والابتسامة في وجه أخيك معروف، بله عن ما يقدمه المرء من مساعدة ليقضى حوائج الناس، فيساعد المريض، ويقضي حاجة الأرملة، ويمسح رأس اليتيم، وينشر الخير، فيعلم الجاهل، وينصح العاصي، ويأخذ على يد الظالم.
والأمر لا يقتصر على أجر الآخرة بل يمنحه الله القبول في الدنيا، فيحبه الناس لمحبة الله له قال عليه الصلاة والسلام: إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إني قد أحببت فلاناً فأحبه، قال: فينادي في السماء، ثم تنزل له المحبة في أهل الأرض فذلك قول الله: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً1 فيحترمونه، ويقدرون له كل معروف عمله من أجل الله لا من أجل شكر الناس، أو عطائهم وثنائهم قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (الحج:77) فقوله: وافعلوا الخير أمر يشمل كل خير، وقال سبحانه: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (النساء:114) وقال : وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (البقرة: من الآية 195) عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رجلاً جاء إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله، وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله ﷺ : أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد (مسجد المدينة) شهراً، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غضبه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رخاءاً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له ثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام2، وعن أبي جرىٍّ الهجيميّ قال أتيت رسول اللّه ﷺ فقلت: يا رسول اللّه! إنّا قوم من أهل البادية، فعلّمنا شيئًا ينفعنا اللّه – تبارك وتعالى – به قال: لا تحقرنّ من المعروف شيئًا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تكلّم أخاك ووجهك إليه منبسط3
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ : من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة4.
أمثلة من صناعة السلف للمعروف:
لم يكن السلف الصالح – رضوان الله عليهم – يترددون في صنع المعروف بل كانوا أسرع الناس إليه، بنفس راضية، وصدر رحب، فهذا أبو بكر الصديق حين ولي الخلافة، فكان في كل يوم يأتي بيتاً في عوالي المدينة تسكنه عجوز عمياء، فينضج لها طعامها، ويكنس لها بيتها، وهي لا تعلم من هو، فكان يستبق وعمر بن الـخطاب إلى خدمتها5.
ولما ولي عمر الخلافة خرج يتحسس أخبار المسلمين، فوجد أرملة وأيتاماً عندها يبكون، يتضاغون من الجوع، فلم يلبث أن غدا إلى بيت مال المسلمين فحمل طعاماً على ظهره، وانطلق فأنضج لهم طعامهم، فما زال بهم حتى أكلوا وضحكوا6.
ومن صناعة المعروف أيضاً ما ذكر عن علي زين العابدين – رحمه الله -، فقد كان أناس من أهل المدينة لايدرون من أين معايشهم، فلما مات فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتون بالليل، ولما غسلوه – رحمه الله – وجدوا بظهره أثراً مما كان ينقله بالليل إلى بيوت الأرامل7.
وهذا عبدالله بن المبارك – رحمه الله – كان ينفق من ماله على الفقهاء، وكان من أراد الحج من أهل مرو إنما يحج من نفقة ابن المبارك، كما كان يؤدي عن المديون دينه، ويشترط على الدائن أن لا يخبر مدينه باسمه8.
ثمرات صنائع المعروف:
أيها المؤمنون: أما الثمرات والآثار التي تحصل من فعل الخير، وصناعة المعروف، والإحسان إلى الخلق؛ فأمر يرخص عنده كل غالٍ، ويصغر عنده كل كبير فمن ذلك:
1- صرف البلاء، وسوء القضاء في الدنيا: فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ : من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة9، وعن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال: صدقة السر تطفىء غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، وفعل المعروف يقي مصارع السوء10 وأخرج الطبراني في الأوسط عن أم سلمة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله ﷺ : صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة خفيا تطفىء غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، وكل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة، وأول من يدخل الجنة أهل المعروف.
أخي الكريم: لا تتردد أن تقضي حاجة لأخيك ولو على حساب وقتك، أو جهدك، وثق في خالقك بأنه سيخلفك خيراً، وسيكون في حاجتك، يخفف عنك همك، ويرفع عنك غمك، ويبارك لك في رزقك، فإن النبي ﷺ قال: مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ11.
حاجة أخيك: همٌ تخففه عنه، ونجدة تسعفه بها، ودين تقضيه عنه، ومال تقرضه إياه، ونقيصة تدفعها عن عرضه، ورفقة تؤنسه بها، ودعاء له تخفيه عنه، وكل عون في بِر، وكل مساعدة في خير، صنائع تنال بها محبة الله، وتفوز من أجلها برضاه.
2- دخول الجنة: جاء عن النبي ﷺ أنه كان يقول: إن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وإن أول أهل الجنة دخولاً أهل المعروف12، وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس13.
3- مغفرة الذنوب، والنجاة من عذاب وأهوال الآخرة: فعن حذيفة قال: قال رسول الله ﷺ : تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم فقالوا: أعملت من الخير شيئاً؟ قال: لا، قالوا: تذكر، قال: كنت أداين الناس، فآمر فتياني أن ينظروا المعسر، ويتجوزوا عن الموسر، قال: قال الله : تجوزوا عنه، وفي رواية عند مسلم: فقال الله: أنا أحق بذا منك، تجاوزوا عن عبدي14.
فاصنعوا المعروف – عباد الله – لكي تنالوا مغفرة الله تعالى، وتدخلوا جنته، وأحسنوا إلى عباد الله، وأدوا إليهم حقوقهم الواجبة والمستحبة حتى يحسن الله إليكم، وييسر لكم أموركم، ويفرج عنكم كربكم في الدنيا والآخرة، نسأل الله – تعالى – بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا؛ أن يوفقنا وإياكم لفعل الخير، والإحسان إلى الخلق إنه سميع مجيب.
والحمد لله رب العالمين،،،
1 صحيح الترمذي الألباني عن أبي هريرة: 3161
2 رواه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج، وحسّن الألباني إسناده في السلسلة الصحيحة رقم (906).
3 أحمد ح (5 /63) وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (98).
4 ابن ماجه ح2417 وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه رقم (184).
5 أُسد الغابة 3 /327.
6 الرياض النضرة 1 /385.
7 سير أعلام النبلاء 4 /393.
8 سير أعلام النبلاء 8 /386.
9 ابن ماجه ح2417
10 أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب قضاء الحوائج والبيهقي في الشعب والأصبهاني في الترغيب قال الشيخ الألباني: (حسن) انظر حديث رقم : 3797 في صحيح الجامع.
11 رواه البخاري.
12 الطبراني في المعجم الكبير، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (3031).
13 مسلم ح1914.
14 مسلم ح1560، البخاري ح2077.