شوق ولوعة

شوق ولوعة

 

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أعدَّ لعباده المؤمنين في جنته ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، والصلاة والسلام على خير البشر محمد بن عبد الله عدد قطرات المطر، وأوراق الشجر، أما بعد:

فلقد أعدَّ الله سبحانه لعباده في جنته ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم أطلعهم في هذه الدنيا على شيء من أوصاف ذلك النعيم المقيم، فطارت نفوس المحبين شوقاً إلى ما أعدَّه لهم رب العالمين، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت؛ لوعة إلى مرضاة خالقهم، وحنيناً إلى جوار ربهم

إنّ المحبَّ إذا أحبَّ إلههُ     طار الفؤادُ وأُلهم التفكيرا

دعونا نعيش مع صور رائعة لبعض أولئك المحبين الصادقين؛ لندرك كيف يصنع الشوق بأصحابه، والحب بأحبابه:

"عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سبعين رجلاً إلى عامر الكلابي، فلما دنوا منه قال رجل من الأنصار يقال له حرام: مكانكم حتى آتيكم بالخبر، فانطلق حتى أشفى عليهم من شُرْف الوادي فنادى: إني رسول رسول الله إليكم، فأمِّنوني حتى آتيكم فأكلمكم، فأمنوه فبينما هو يكلمهم أتاه رجل من خلفه فطعنه، فلما أحس حرام حرارة السنان قال: فزت ورب الكعبة!!"1.

"إن هذا المشهد يجعل أقسى القلوب وأعظمها تحجرًا يتأثر، ويستصغر نفسه أمام هؤلاء العظماء الذين لا تصفر وجوههم فزعًا من الموت، وإنما يعلوها البشر والسرور، وتغشاها السكينة والطمأنينة، وهذا المنظر البديع الرائع الذي لا يتصوره العقل البشري المجرد عن الإيمان جعل جبار بن سلمى وهو الذي طعن حرام بن ملحان يتساءل عن قول حرام: "فزت ورب الكعبة"، وهذا جبار يحدثنا بنفسه فيقول: إن مما دعاني إلى الإسلام أني طعنتُ رجلاً منهم يومئذ برمح بين كتفيه، فنظرت إلى سنان الرمح حين خرج من صدره، فسمعته يقول: "فزت ورب الكعبة"، فقلت في نفسي: ما فاز ألستُ قد قتلتُ الرجل؟! حتى سألتُ بعد ذلك عن قوله، فقالوا: للشهادة، فقلت: فاز لعمر الله، فكان سببًا لإسلامه"2.

إن تبتدر غايةٌ يومـــاً لمكرمةٍ             تلـق السوابـق منا والمصلينا

لو كان في الألف منا واحدٌ فدُعوا:           مـن فارس؟ خالهم إياه يعنونا

ولا تراهم وإن جلت رزيتــهم            مع البكاة على من مات يبكونا

إذا الكمـــاة تنحوا أن ينالهم             حــدُّ الظباة وصلناها بأيدينا

وانظروا إخواننا لهذه الصورة الثانية من صور الشوق واللوعة؛ للقاء رب العالمين:

الصحابي الجليل – عُمير بن الحُمام الأنصاري – الذي اشتاقت نفسه، وطارت روحه حنيناً إلى الملأ الأعلى، وذلك عندما شَوّق الرسول – صلى الله عليه وسلم – أصحابه قبل غزوة أحد قائلاً لهم – وهم على مشارف الغزوة -: ((قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض))، فلما سمع عمير هذا الوصف النبوي، والوعد الإلهي، تحرك الشوق في نفسه، وطار به الحب للقاء ربه، وحاله: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}3

صبرت على الأيام صبراً أصارني              إلى أن ينادي الصبر: لا صبر لا صبر

فقال عمير في شوق ولوعة: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟! قال: ((نعم))، قال: بخ بخ4، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ما يحملك على قولك بخ بخ ))، قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها، فقال – صلى الله عليه وسلم -: ((فإنك من أهلها)).

أنابتْ إلى جنّات عدنٍ نفوسهمْ               وما بعدها للصَّالحين حتوف

فبشره المختار بالخلد والسنا                   فيا فرحة الأعمار جاء المبشر

 فأخرج تمرات من قرنه5 فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال: فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل"6.

إنه الشوق والحنين إلى مجاورة رب العالمين في جنات النعيم {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ}7.

أحبتنا الكرام: وهذه صورة أخرى من صور الشوق واللوعة إلى جنات النعيم لذلك الجيل العظيم:

عمرو بن الجموح، وكان "رجلاً أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأسد يشهدون مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المشاهد، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه، وقالوا له: إن الله – عز وجل – قد عذرك، فأتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: إن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه، فو الله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة!! – وحاله:

فلم أجد غير درب الله درب هدىً           وغـير ينبوعها نبعاً لمغترفِ

فطرت أسعى إليه أبتغــي تلفي            به ورب خلودٍ كان في تلفِ

والناس تصرخ أجحم والوغى نشبتْ                  والله يهتف بي: أقدم ولا تخفِ

ماضٍ فلو كنتُ وحدي والدنا صرختْ                بي: قِفْ لسرتُ فلم أبطئ ولم أقِفِ

فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك))، وقال لبنيه: ((ما عليكم ألا تمنعوه لعل الله أن يرزقه الشهادة))، فخرج معه فقُتِل بوم أحد شهيداً"8.

ففاز قدماً بها والله أكرمه            وكان سباق غايات إذا ابتدروا

اللهم ألحقنا بالصالحين، وارزقنا شهادة في سبيلكـ مقبلين غير مدبرين، يا أكرم الأكرمين.


 


1 أسد الغابة (1/250).

2 السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث (3/234).

3 سورة طه (84).

4 بخ: هي كلمة تقال عند المدح والرضى بالشيء، وتكرر للمبالغة، وهي مبنية على السكون، فإن وصلت جررت ونونت فقلت بخٍ بخٍ، وربما شددت بخٍّ بخٍّ، وبخبخت الرجل إذا قلت له ذلك، ومعناها تعظيم الأمر وتفخيمه. النهاية في غريب الأثر (1/250).

5 قَرَنِه: أي جعبته، ويجمع على: أقْرُن وأقران. النهاية في غريب الأثر (4/81).

6  الحديث في مسلم برقم (5024).

7  سورة القمر (55).

8 أنظر: سيرة ابن هشام (2/90)، والسيرة النبوية لابن كثير (3/74)، وقال الألباني في فقه السيرة (1/260): سنده حسن إن لم يكن مرسلاً، وقد روى بعضه أحمد بسند صحيح.