وبالوالدين إحساناً

وبالوالدين إحساناً

 

الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

إن الله – تبارك وتعالى – لما خلق الإنسان خلقه من والدين: أبٌ وأمٌ, وأمره بطاعتهما، والإحسان إليهما فقال الله – تبارك وتعالى -: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ}1، وقال ربنا – تبارك وتعالى -: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}2، ففي هاتين الآيتين يقرن الله – تبارك وتعالى – طاعة الوالدين بطاعته – سبحانه وتعالى -.

ومما يدل أن على الإنسان المسلم أن يحسن إلى والديه في حياتهما, وأن يدعو الله – تبارك وتعالى – لهما بعد موتهما لأن ذلك من الإحسان إليهما بعد الموت, وينهى عن إيذائهما ولو بأبسط شيء كقول الإنسان لهما: "أف" وهي كلمة تضجر، ويأمره أن يقول لهما قولاً ليناً كريماً قول الله – تعالى -: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا}3, وقال الله – تبارك وتعالى -: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}4، فهذه الآية تبين أن طاعة الوالدين تكون في غير معصية, وإذا أمرا بمعصية فلا طاعة لهما، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق قال الله: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}5، وقال الله – تبارك وتعالى -: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}6؛ فهذا أمر من الله – تعالى – بالإحسان إلى الوالدين, وأن طاعتهما سبب في دخول الجنة، وقد أكد ذلك ما جاء في حديث أبي الدرداء – رضي الله عنه -: أن رجلاً أتاه فقال: إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها؟ قال أبو الدرداء: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو أحفظه))7، وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((نمت فرأيتني في الجنة، فسمعت صوت قارئ يقرأ، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا حارثة بن النعمان، فقال لها (أي لعائشة – رضي الله عنها -) رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((كذاك البر، كذاك البر، وكان أبر الناس بأمه))8.

وأخبر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن البر من أفضل الأعمال وأحبها عند الله – تعالى – فعن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: سألت النبي – صلى الله عليه وسلم -: "أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) قال: ثم أي؟ قال: ((ثم بر الوالدين)) قال: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، قال: حدثني بهن ولو استزدته لزادني"9؛ وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: جاء رجل إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك))، قال ثم من؟ قال: ((ثم أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((ثم أمك))، قال: ثم من ؟ قال: ((ثم أبوك))10.

أخي في الله:

عليك ببر الوالدين كليهما           وبرِّ ذوي القربى وبرِّ الأباعدِ

ولا تصحبن إلا تقياً مهذباً           عفيفاً ذكياً منجزاً للمواعدِ11

وهاك أخي في الله بعض فوائد بر الوالدين:

1.    بر الوالدين سبب في دخول الجنة كما تقدم.

2.  وبر الوالدين سبب في إطالة العمر لحديث أنس بن مالك – رضي الله عنه -: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه))12.

3.    ومنها: أن بر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله كما تقدم.

4.  ومنها: إجابة الدعاء، فقد بوب الإمام البخاري – رحمه الله – في صحيحه: "باب إجابة دعاء من بر والديه"، ثم ذكر حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة: قال فيه النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((قال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران وامرأة، ولي صبية صغار أرعى عليهم، فإذا أرحت عليهم حلبت لهما، فبدأت بوالدي فسقيتهما قبل صبيتي، وإنه نأى بي ذات يوم الشجر فلم آتِ حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحِلاب، وقمت عند رءوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أسقي الصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمي – يصيحون ويبكون من الجوع – فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة نرى منها السماء، ففرج الله منها فرجة، فرأينا منها السماء))13.

فنسأل الله – تبارك وتعالى – أن يمنَّ علينا بطاعة والدينا وبرهما أحياءً وأمواتاً، وأن يغفر لنا ولهم إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 سورة البقرة (83).

2 سورة الأنعام (151).

3 سورة الإسراء (23).

4 سورة العنكبوت (8).

5 سورة لقمان (14-15).

6 سورة الأحقاف (15).

7 رواه الترمذي في سننه برقم (1900)، وقال: وهذا حديث صحيح؛ وابن ماجة برقم (2089) وبرقم (3663)؛ وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة برقم (1699)، وبرقم (2955)؛ وفي السلسة الصحيحة برقم (914).

8 رواه أحمد في المسند برقم (25223)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين؛ والحاكم في المستدرك برقم (7247)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذه السياقة؛ وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (913).

9 رواه البخاري في صحيحه برقم (504)؛ ورقم (5625)؛ ومسلم برقم (85).

10 رواه البخاري في سننه برقم (5626)؛ ومسلم برقم (2548).

11 انظر الترغيب والترهيب للمنذري (331).

12 رواه البخاري في صحيحه برقم (5640)؛ ومسلم برقم (2557).

13 رواه البخاري في صحيحه برقم (2208)، وبرقم (5629)؛ ومسلم برقم (2743).