المأموم المنفرد

المأموم المنفرد

 

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، والصلاة والسلام على النبي الكريم أحمد، وعلى آله وصحبه وكل من صلى لله وعبد.. أما بعد:

فإن لصلاة الجماعة مكانتها في الدين، وهي تفضل على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة، وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من يصلي الصلوات في غير جماعة، وهددهم بحرق بيوتهم بالنار إن لم ينتهوا عن ذلك؛ لأن من شذَّ شذ في النار.

ولصلاة الجماعة أحكام عديدة، من ذلك: صلاة المنفرد خلف الصف.. فمن المعلوم أن ديننا الحنيف يهدف في كل شعائره التعبدية إلى وحدة الكلمة ووحدة الصف، والوحدة في كافة الأمور، حتى على مستوى الصلاة في المساجد، فأمر بالتساوي في الصفوف والتراص فيها، وترك التفرق والاعوجاج، وحذر من يتساهل في هذا الأمر فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (عباد الله! لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) متفق عليه.

 وأتى النهي عن صلاة الفرد خلف الصف وحده، فعن وابصة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد، قال سليمان بن حرب: الصلاة)1 أي يعيد الصلاة. وفي الأمر بإعادة الصلاة دليل على حرمة الصلاة خلف الصف فرداً؛ لأن الرسول لم يعتبر صلاته شيئاً حتى أمره بالإعادة.. وقد اختلف العلماء على قولين في إعادة الصلاة، فمنهم من قال بإعادتها ومنهم من قال هي صحيحة لا يعيدها، ولكل دليله وبرهانه..

وسأتركك -أخي القارئ الكريم- مع الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- فقد سئل عن حكم الصلاة خلف الصف منفرداً؟

 فأجاب: الصلاة خلف الصف منفرداً لا تجوز ولا تصح على القول الراجح، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- وإن كان عنه رواية أخرى أنها تصح وهو مذهب الأئمة الثلاثة: مالك، وأبي حنيفة، والشافعي. ولكن الراجح أنها لا تصح خلف الصف منفرداً، إلا إذا تعذر الوقوف في الصف بحيث يكون الصف تامّاً، فإنه يصلي خلف الصف منفرداً تبعاً للإمام؛ لأنه معذور، ولا واجب مع العجز كما قال أهل العلم -رحمهم الله- وإذا كان الرسول -عليه الصلاة والسلام- جعل المرأة تقف خلف الصف منفردة عن الرجال للعذر الشرعي -وهو عدم إمكان وقوفها مع الرجال- فإن العذر الحسي أيضاً يكون مسقطاً لوجوب المصافَّة؛ وذلك لأنه في هذه الحال إذا لم يجد الرجل إلا موقفاً خلف الصف منفرداً فإما أن يصلي منفرداً خلف الصف مع الإمام، أو يصلي منفرداً وحده عن الجماعة، أو يجذب واحداً من الصف ليكون معه، أو يتقدم ليصلي إلى جانب الإمام، هذه الأحوال الأربعة التي يمكن أن تكون لهذا الرجل الذي لم يجد موقفاً في الصف. فنقول له: أما التقدم إلى الإمام حتى يكون إلى جانبه فإن فيه محذورين، أحدهما: الوقوف مع الإمام في صلاة الجماعة وهذا خلاف السنة؛ لأن الأفضل أن ينفرد الإمام في مكانه، ليكون إماماً متميزاً عن الجماعة منفرداً عنهم في المكان ليعرف أنه إمام، وأنه لا ثاني معه، ولا يرد على هذا قصة أبي بكر -رضي الله عنه- حين جاء النبي -عليه الصلاة والسلام- وأبو بكر يصلي بالناس فكان على يسار أبي بكر، وأبو بكر عن يمينه2؛ لأن أبا بكر -رضي الله عنه- هو الإمام أولاً، ويتعذر أن يرجع إلى صف وراءه لأنه متصل، فوقوف أبي بكر هنا على سبيل الضرورة.

المحذور الثاني: أنه إذا تقدم مع الإمام فإنه سوف يتخطى الصف، أو الصفين، أو الثلاثة حسب ما يجد أمامه من الصفوف..

ثم قال:

أما جذبه لواحد من الصف الذي أمامه فهذا -أيضاً- يترتب عليه عدة محاذير:

المحذور الأول: فتح فرجة في الصف، وهذا من قطع الصف، وقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "من قطع صفاً قطعه الله"3

المحذور الثاني: أن هذه الفرجة التي حدثت في الصف فإن الغالب أن الناس يتقاربون، وحينئذ يؤدي إلى حركة جميع الصف، ولولا جذب هذا الرجل ما تحرك الصف ولبقي الناس على أمكنتهم.

المحذور الثالث: أنه ينقل صاحبه الذي جذبه من المكان الفاضل إلى المكان المفضول، وفي هذا نوع اعتداء عليه.

المحذور الرابع: أنه إذا جذب المصلي فلابد أن يكون عنده فزع ونحوه مما يوجب عليه تشويش صلاته.

أما الحال الثالثة وهي: أن نقول: انصرف ولا تصلِّ مع الجماعة؛ لأن الصف تام، وحينئذ نحرمه من صلاة الجماعة، ويكون منفرداً في موقفه وفي صلاته أيضاً.

 وتبقى عندنا الحال الرابعة وهي: أن نقول له: كن خلف الصف منفرداً في المكان، موافقاً في الأفعال، وهذه الأخيرة هي خير الأقسام بلا شك، فإذا كانت هي خير الأقسام فإنها تكون هي المطلوبة ونقول له: قف خلف الصف وصلّ مع الإمام منفرداً؛ لأنه معذور. أما قول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: "لا صلاة لمنفرد خلف الصف"4 فهذا حمله من يرون أن المصافة ليست بواجبة حملوه على أنه نفي للكمال وليس نفياً للصحة، ولكن هذا الطريق ليس بصحيح؛ لأن الأصل في ما نفاه الشرع انتفاء الصحة، هذا هو الأصل إلا إذا وجد دليل على أن المراد انتفاء الكمال، فيحمل على انتفاء الكمال وإلا فالأصل أن النفي نفي للصحة.

ثم ذكر الشيخ حالات النفي إذا وردت في النصوص الشرعية وغيرها، فبين أنها ثلاث حالات: نفي الوجود، ونفي الصحة، ونفي الكمال.. ثم قال:

وعلى هذا فقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا صلاة لمنفرد خلف الصف" أو لفرد خلف الصف هو من القسم الثاني، أي مما نفيت صحته، فلا تصح صلاة منفرد خلف الصف، ولكن هذا يدل على وجوب المصافة، ووجوب المصافة عند التعذر يسقط بتعذره؛ لأن القاعدة المعروفة عند أهل العلم والتي دل عليها قوله -تعالى-: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} البقرة:286، تدل على أنه لا واجب مع العجز، وبهذا تبين أنه إذا تعذر الوقوف في الصف لكماله فإن الداخل يصف وحده ويتابع إمامه، وصلاته في هذه الحالة صحيحة) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ: محمد ابن عثيمين (15/193-197).


1– رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه

2– ثبت ذلك في البخاري ومسلم.

3– رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (620).

4– رواه أحمد بلفظ: (لا صلاة لرجل فرد خلف الصف) ورواه ابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (949) بلفظ: (استقبل صلاتك، فلا صلاة لمن صلى خلف الصف وحده).