وجعل الليل سكناً
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن من رحمة الله بعباده أنه لم يجعلهم يعيشون في ليل دائم، ولا نهار دائم؛ بل جعل الليل والنهار خلفة، كل واحد منهما يخلف مكان صاحبه ويعقبه، وهذا فضل منه ورحمة قال تعالى: وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (القصص: 73)، قال الإمام الطبري: “يقول تعالى ذكره ومن رحمته بكم أيها الناس جعل لكم الليل والنهار فخالف بينهما فجعل هذا الليل ظلاماً لتسكنوا فيه وتهدءوا، وتستقروا لراحة أبدانكم فيه من تعب التصرف الذي تتصرفون نهاراً لمعايشكم”1.
فالله سبحانه جعل هذا الليل سكناً لنا قال تعالى: فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (الأنعام:96)، وقال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (يونس:67)، وقال: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (غافر:61).
فهذا الظلام الذي يغطي وجه الأرض إنما هو لمنفعة هذا المخلوق، وهو رحمة من الله – تعالى – بعباده، يقول ابن كثير عند تفسير قوله – تعالى -: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (الفرقان:47): “أي يلبس الوجود ويغشاه كما قال تعالى: والليل إذا يغشى، والنوم سباتاً أي قاطعاً للحركة لراحة الأبدان فإن الأعضاء والجوارح تكل من كثرة الحركة، فإذا جاء الليل وسكن سكنت الحركات فاستراحت، فحصل النوم الذي فيه راحة البدن والروح معا، وجعل النهار نشوراً أي ينتشر الناس فيه لمعايشهم، ومكاسبهم، وأسبابهم؛ كما قال تعالى: وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ2. فالله هو أرحم الراحمين، وهو الخبير بما خلق، والعليم بما يصلح أحوالهم، وما ينفعهم أو يضرهم، وأحسن فجعل هذه الموازين لكي تستقر حياة المخلوقات، وتعيش بميزان لا اضطراب فيه ولا خلل صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (النمل:88)، ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (السجدة:6-7)، ولكن البعض من خلقه عكسوا هذا الميزان، وتنكبوا تلكم الفطرة، فشاهدنا من قلب ليله إلى نهار، ونهاره إلى ليل، فتجده يسهر الليل كله، وينام النهار كله، وليته سهر في مرضات الله، وعلى طاعة الله، أو ما ينفعه، ولكن سهر في استنزال غضب الله، والتعرض لسخطه، فكم من أناس يسهرون على المعاصي من مشاهدة القنوات الخليعة، والصور العارية، ومتابعة الفساد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فهؤلاء قد أخلوا بما خلقوا له، وأخلوا بتلك الفطرة التي خلقهم الله عليها، ولم يعملوا وفق ما أراد الله، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وبسبب الاختلال الذي حدث في تصرفات هؤلاء نتجت لديهم أضرار كثيرة على دينهم، وعلى دنياهم، فكم من عبادة ضيعوها! وكم من معصية اقترفوها! وكم من خير حرموا منه، وكم فوتوا على أنفسهم أعمالاً تنفعهم! بل وجنوا من وراء السهر الضرر الكبير على أبدانهم لما يسببه السهر من أمراض كالصداع، والتعب، والغثيان، واحمرار العينين وانتفاخهما، والتوتر العصبي، والقلق، وضعف الذاكرة، والتركيز، وسرعة الغضب، والألم في العضلات، وبعض المشكلات الجلدية كالبثور وغيرها.
حتى جهاز المناعة لدى الإنسان قد يتأثر بالسهر، وقد عكفت إحدى الجامعات بكندا طوال عشر سنوات على دراسة السبب الخافي لبعض الأمراض فتبين أن النوم وقلته وراءها، وأن هذا الجهاز العصبي للإنسان مبرمج على ساعات اليقظة وساعات النوم التي يحتاجها الإنسان، وعند حدوث أي تغيير في هذه البرمجة يصاب الجهاز المناعي بالخلل والاضطراب.
فالسهر إذا لم يكن في منفعة فلا خير فيه، فلو أن الإنسان أدى ما عليه، وأكمل أعماله، ونام في أول الليل، وقام في آخره؛ لظفر بالخير الكثير، وأراح بدنه من مشاق أعمال النهار، فيستيقظ في يومه الثاني وهو مستعد لقضاء أعمال ذلك اليوم، فلا تتزاحم عنده الأعمال، ويسعد في حياته، وبعد مماته.
نسأل الله أن يجعلنا من عباده المخلصين، ومن أولياءه المتقين، وأن يوفقنا لكل خير، ويجنبا كل شر، ونسأله أن يلهمنا رشدنا، ويعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا، ويزيدنا علماً، وصلى الله وسلم على نبيه محمد، والحمد لله رب العالمين.