الثبات على الدين

الثبات على الدين

 

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن الله – تبارك وتعالى – خلق الخلق لطاعته وعبادته، وأمرهم بالمضي على ذلك، والثبات عليه حتى يأتي الموت كما قال – تعالى-: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (99) سورة الحجر ، وقال الله – تعالى- لنبيه – صلى الله عليه وسلم – ولكل فرد في أمته: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (112) سورة هود.

إن الثبات على دين الله – تعالى- معناه الاستمرار على الحق، وعدم الركون إلى الباطل، مهما كانت الظروف والصعاب، وإن عكس ذلك هو الانحراف والضلال البعيد.

فيجب على كل مؤمن بالله – تعالى- أن يعلم هذه القضية حق العلم، وأن يدركها إدراكاً جيداً؛ وأن يسأل الله الثبات على دينه دائماً وأبداً، فقد كان من دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم -: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) فقال له أنس بن مالك: يا رسول الله آمنا وبك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: (نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبهما كما يشاء).1

وأعظم ما يستعين به الإنسان على الاستمرار على الطاعات والدين القويم هو ربه ومولاه – سبحانه وتعالى -، فإنه لا توفيق إلا توفيقه، ولا خير إلا خيره، ولا إله غيره.

ووسائل الثبات على الدين كثيرة وعديدة، من ذلك:

 

1- استشعار عظمة الله:

فالله – جل جلاله – عظيم كبير متعال، له الملك وله الحكم، يعلم الغيب كله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ومن عظمته وقدرته أن هذه المخلوقات لا تساوي شيئاً أما جبروته وكبريائه، كما قال – تعالى-:

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (67) سورة الزمر.

وروى البخاري من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السموات بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض)، وروى مسلم من حديث أبي موسى – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).

فكلما تفكر الإنسان في عظمة الله وكبريائه وعلوه على خلقه بجميع معاني العلو (علو الذات، وعلو القهر، وعلو القدر) كلما زاده ثباتاً على دينه، بل وحباً له وتقديراً وتقديساً، ولو أدى بعد كل ذلك أن يموت من أجل دينه وإعلاء كلمته لفعل وكان ذلك عليه يسيراً.

 

2-             طاعة الله ورسوله:

كما قال – تعالى-: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} (66) سورة النساء، وقد أرشد النبي – صلى الله عليه وسلم – المسلمين إلى العبادة في الهرج والفتن واختلاط أمور الناس؛ ليكون في ذلك تثبيتاً وعوناً على مجابهة تلك الفتن بالطاعة والعمل الصالح فقال: (العبادة في الهرج كهجرة إلي).2

والطاعة الخالصة لله – تعالى- تزيد الإنسان – إلى جانب الثبات – حلاوة يجدها المؤمن في نفسه، فتختلط حلاوة الإيمان والعمل الصالح بمرارة الفتن؛ فتغلب حلاوة الإيمان مرارة الفتن، كما جاء عن بلال بن رباح – رضي الله عنه – أنه لما فتن في مكة، وعذب في الله، ولما سئل عن سر ثباته وإصراره على الحق قال: "مزجت حلاوة الإيمان بمرارة العذاب؛ فغلبت حلاوة الإيمان".

وروى البخاري عن ابن عباس – رضي الله عنهما – الحديث الطويل وفيه: (قال هرقل لأبي سفيان: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، ثم قال: وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب).

وينبغي لمن رزقه الله الطاعة الاستمرار عليها فقد روى مسلم عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل).

ومن الطاعات التي تثبت الإنسان على دين الله – تبارك وتعالى – قراءة القرآن الكريم وتدبره، والنظر فيه نظرة تفكر واعتبار؛ كما قال الله – تعالى-: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} (32) سورة الفرقان.

ومن الأعمال الصالحة التي تزيد الإنسان ثباتاً وقوة وخاصة في مواقع القتال ومواجهة العدو ذكر الله – تعالى-، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} (45) سورة الأنفال، ومن أعظم الطاعات المثبتة للإنسان على الدين: العمل لدين الله، ونصرة الله في أرضه بالاعتزاز بدينه، ومناواة أعدائه باللسان والسنان والبيان كما قال – تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (7) سورة محمد.

 

3- تدبر قصص الأنبياء والصالحين:

كما قال – تعالى-: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (120) سورة هود.

ومن ذلك: إبراهيم – عليه السلام – حين ثبت أمام هجوم قومه عليه، ومحاولتهم قتله وحرقه بالنار، فكان أن ثبت على دينه في ذات الله كما قال – تعالى-: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (68-69) سورة الأنبياء، عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: (كان آخر قول إبراهيم حين ألقى في النار: حسبنا الله ونعم الوكيل).

وكذلك ثبات موسى – عليه السلام – قال – تعالى-: {فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (61-62) سورة الشعراء.

 

4- الدعاء:

روى الترمذي عن أنس – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يكثر أن يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك).. الحديث.3

وفي حديث الطبراني والحاكم عن ابن عمر قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم).4

 

5- قصر الأمل:

فمن طال أمله تقلب في هذه الدنيا يمنة ويسرة، ولا يدرى إلى أين نهايته والعياذ بالله، ومن قصر أمله استعد للقاء الله فزاده ذلك ثباتاً وقوة في الدين، ومحافظة عليه من أي دخيلة أو فتنة.

إن طول الأمل يجلب على الإنسان الاغترار بالدنيا وحبها، ويسوقه ذلك إلى التقلبات لأجل الحصول على المصالح المختلفة ولو على حساب الدين، فكم ترك إنسان استقامته بل ودينه من أجل متاع الدنيا الفاني، وسبب ذلك الاغترار بالحياة الدنيا وطول الأمل فيها.

وانظر إلى هذا المعنى العظيم الذي بينه النبي – صلى الله عليه وسلم – للصحابة الكرام، تستوحيه من هذا الحديث الشريف: عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: أخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"5، فمن كان همه كذلك وجدته دائم الاستعداد للرحيل لمقابلة الملك الجليل.

 

6- الإكثار من ذكر الموت:

فهو معين على النظر إلى الدار الآخرة، والاستعداد للقاء الله، ومن كان هذا حاله زاده قوة في الدين، وثباتاً لعلمه أنه عن قريب ملاقي الله – تعالى-، ولهذا أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بالإكثار من ذكر الموت، كما في حديث ابن عمر – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (أكثروا ذكر هادم اللذات) يعني الموت.6

وحث النبي – صلى الله عليه وسلم – أمته على زيارة القبور لأنها تذكر الآخرة، وتقلل من شأن الدنيا في النفس، فعن أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها يرق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة، ولا تقولوا هجراً).7

 

7- الخوف من سوء الخاتمة:

فإنه يدفع الإنسان إلى مراقبة الله – تعالى-، والسير على نهجه حتى تكون الخاتمة على خير، فمن خاف سوء الخاتمة صبر وتصبر، وتجنب طريق الشر، واتبع ما أمر الله به، وانتهى عما نهى عنه، وكان في طريقه إلى الله على بصيرة شرعية من كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، ويجتنب كل ما يفسد خاتمته، وما يكون سبباً في شقائه في الآخرة، روى البخاري من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسَّى سُماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً).

فمن تذكر هذه الخاتمة المشار إليها وغيرها فإنه سيبقى ثابتاً على دينه، ملتزماً بشرع ربه حتى يأتيه الموت.

 

8- تذكر منازل الآخرة:

فإن من تذكر الدار الآخرة وما في الجنة من نعيم مقيم لا يزول ولا يتغير؛ زاده ذلك شوقاً إليها، وثباتاً على الصراط المستقيم، وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يذكر أصحابه بالجنة إذا اشتد عليهم البلاء، كما في حديث جابر – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مر بعمار وأهله وهم يعذبون فقال: (أبشروا آل عمار و آل ياسر فإن موعدكم الجنة).8

وفي حديث أسيد بن حضير أن النبي – صلى الله عليه وسلم –  قال للأنصار: (إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض).9

هكذا فليكن المؤمن بالله – تعالى- ثابتاً على دينه، مستقيماً على ذلك إلى أن يلقى الله – عز وجل -.

نسأل الله أن يثبتنا على دينه، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب.


1 رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني.

2 رواه مسلم.

3 سبق تخريجه.

4 قال الذهبي: رواته ثقات.

5 رواه البخاري.

6 رواه الترمذي والحاكم، وقال الذهبي: على شرط مسلم.. وصححه الألباني.

7 رواه الحاكم وهذا لفظه، ورواه أحمد وغيره وهو حديث صحيح. 

8 رواه الحاكم وقال الذهبي على شرط مسلم.

9 متفق عليه.