التعامل مع أهل البدع

التعامل مع أهل البدع

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

إن من كمال إيمان المرء أن يحب ويبغض في الله فقد جاء عن سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((مَنْ أَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ، وَأَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَنْكَحَ لِلَّهِ؛ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ إِيمَانَهُ))1.

وأهل السنة لا يتميزون عن غيرهم من الفِرَقِ في الجانب العلمي من باب الاعتقاد، ومصدر التلقي، ومنهج الاستدلال فقط؛ بل إنهم يتميزون عن باقي الفِرَقِ بمنهجهم العلمي المتفرد في باب السلوك والأخلاق، والتعامل مع المخالف من أهل القبلة، وفي التعامل مع الكفار والمشركين، وكذلك في باب التعبد والتزكية.

وكان مما تزامن مع إقبال المسلمين على السنة، وعنايتهم بها علماً وعملاً؛ الأخذ بمبدأ كراهة البدعة وأهلها، وإنكارها عليهم؛ وفقاً للسنة الإلهية، وتبعاً للحكم الشرعي، غير أن أهل السنة والجماعة جعلوا هنالك قواعد للتعامل مع أهل البدع، فهم وسط بين الغالي والجافي قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: "إن أقواماً جعلوا ذلك – أي هجر صاحب البدعة – عاماً، فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به مما لا يجب ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات، وفعلوا به محرمات، وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية؛ فلم يهجروا ما أُمِروا بهجره من السيئات البدعية، بل تركوها ترك المعرض لا ترك المنتهي الكاره، ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجاباً أو استحباباً، ودين الله وسط بين الغالي فيه، والجافي عنه"2.

وإليك أخي القارئ أمور ينبغي أن نتنبه لها جميعاً:

أولاً: لا ينبغي أن نتخذ موقفاً سلبياً من مسلم بسبب أمر وقع فيه إلا أن نتأكد أن هذا الفعل بدعة أو معصية، فينبغي للمسلم أن يتعرف على مفهوم البدعة؛ فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ومن المهم – أيضاً – استحضار أن البدع ليست بدرجة واحدة، بل تتفاوت بقدر ما ارتبط بها من مفسدة كما قال الإمام الشاطبي – رحمه الله -: "كل بدعة عظيمة، بالإضافة إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع، إلا أنها وإن عظمت لما ذكرناه فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبها: فيكون منها صغار وكبار؛ إما باعتبار أن بعضها أشد عقاباً من بعض؛ فالأشد عقاباً أكبر مما دونه، وإما باعتبار فوات المطلوب في المفسدة"3.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: "إن الطوائف المنتسبة إلى مبتدعين في أصول الدين على درجات: فمنهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون قد خالف السنة في أمور دقيقة"4.

ثانياً: يراعى في التعامل مع أهل البدع أن نستشعر الإخلاص والمتابعة للنبي – صلى الله عليه وسلم -، وذلك أن الحكم ببدعة ما، واتخاذ موقف من أهلها؛ مسائل شرعية نحن متعبدون بها، فيشترط لها ما يشترط لسائر العبادات، ومعنى الأخذ بالإخلاص أنه ينبغي ألا يكون الموقف (عقاباً أو تألفاً) إزاء أحد من المبتدعة تشهياً ولا تشفياً قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: "فمن هجر لهوى نفسه، أو هجر هجراً غير مأمور به؛ كان خارجاً عن هذا، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله"5، وقال – رحمه الله – عن الرجل "إذا كان مبتدعاً يدعو إلى عقائد تخالف الكتاب والسنة، أو يسلك طريقاً يخالف الكتاب والسنة؛ بُيِّنَ أمره للناس؛ ليتقوا ضلاله، ويعلموا حاله، وهذا كله يجب أن يكون على وجه النصح، وابتغاء وجه الله – تعالى -، لا لهوى الشخص مع الإنسان؛ مثل أن يكون بينهما عداوة دنيوية أو تحاسد، أو تباغض أو تنازع على الرئاسة، فيتكلم بمساوئه مظهراً للنصح، وقصده في الباطن الغض من الشخص، واستيفاؤه منه؛ فهذا من عمل الشيطان"6.

وأهل السنة يعلمون الحق، ويرحمون الخلق، والمبتدع من أولئك الخلق الذين يرحمهم أهل السنة، مع يقينهم بكونهم على بدعة يستحقون بها العقوبة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: "وأئمة السنة والجماعة، وأهل العلم والإيمان؛ فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون فيه موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون مع من خرج منها ولو ظلمهم كما قال – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}7، ويرحمون الخلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، ولا يقصدون لهم الشر ابتداءً، بل إذا عاقبوهم، وبينوا خطأهم، وجهلهم، وظلمهم؛ كان قصدهم بذلك بيان الحق، ورحمة الخلق"8، وقال: "وإذا نظرت إلى المبتدعة بعين القدر والحَيْرة مستولية عليهم، والشيطان مستحوذ عليهم؛ رحمتهم وترفقت بهم؛ أوتوا ذكاءً وما أوتوا زكاءاً، وأعطوا فهوماً وما أعطوا علوماً، وأعطوا سمعاً وأبصاراً وأفئدة {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}9"10.

ثالثاً: ينبغي أن نعلم جميعاً أن أهل البدع مستوجبون للعقوبة وذلك لمخالفتهم أمر الله – تعالى – ونهيه، وأمر رسوله – صلى الله عليه وسلم – ونهيه، سواء كانت تلك المخالفة في القلب عن اعتقاد، أو كانت من أعمال الجوارح، ومن العقوبات التي يمكن أن تنفع لزجر المبتدعة:

1- هجرهم: قال الإمام البَغْوي: "وفيه – أي حديث كعب بن مالك – دليل على أن هجران أهل البدع على التأبيد، وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنة على هذا مجمعين، متفقين على معاداة أهل البدعة ومهاجرتهم"11، ومن الهجر: عدم أخذ العلم عنه، ولا مناكحته، ولا الصلاة خلفه مع وجود إمام غيره؛ فإن كان هو الوالي فإنه يصلي خلفه الصلوات التي لا يمكنه فعلها إلا خلفه كالجمع والأعياد، ولا يعيد"12، وقد ألَّف العلامة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد – رحمه الله تعالى – رسالة نافعة بعنوان "هجر المبتدع"، وبيَّن فيها شروط الهجر، وأنواع الهجر، وصفات الهجر؛ فليرجع إليها.

2- عدم الاستماع لكلامهم ومجالستهم: وهو لون من ألوان الهجر فعن أبي زُرعة عن أبيه قال: "لقد رأيت صَبيغ بن عِسْل بالبصرة كأنه بعير أجرب، يجيء إلى الحِلَق فكلما جلس إلى حلقة قاموا وتركوه، فإن جلس إلى قوم لا يعرفونه ناداهم أهل الحلقة الأخرى: عزيمةَ أمير المؤمنين"13، "وقال رجل من أهل الأهواء لأيوب السختياني: أسألك عن كلمة، فولَّى أيوب وهو يقول: لا، ولا نصف كلمة مرتين يشير بأصبعيه"14، قال شيخ الإسلام: "لا يجوز الاستماع إلى أهل البدع، ولا النظر في كتبهم لمن يضره ذلك"15.

3- الإنكار والرد عليهم: فيجب كشف بدعة المبتدع ولو أدى إلى غِيبته؛ إذ ليس لمعلن البدعة غِيبة قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: "يجب الإنكار على أهل البدع ولو كانت بدعتهم بقصد حسن"16، وقال في موضع آخر: "ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة؛ فإن بيان حالهم، وتحذير الأمة منهم؛ واجب باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب؛ فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً، وأما أولئك فيفسدون القلوب ابتداءً"17.

4- العقوبات البدنية: وقد تصل للقتل لمن يملك ذلك، وأوضح مَنْ يصدق عليه ذلك الداعيةُ لبدعة، المصِرُّ عليها كما جرى للجَعْد وغِيلان والجَهْم، وقد تكون العقوبة بما دون القتل.

رابعاً: ينبغي أن نراعي مقصدين في التعامل مع المبتدعة:

المقصد الأول: إصلاحهم وهدايتهم، فليس المبتدع في الجملة شراً من الكفار الذين شرع لنا دعوتهم ودلالتهم على الحق، بل ربما كان فيهم من القرب للحق ما يدعو للاهتمام بهم، وبخاصة إذا كانت البدعة عن جهل وبُعد عن مصادر العلم، وقد "ناظر ابن عباس – رضي الله عنهما – الخوارج، فرجع منهم من أراد الله به الخير والهداية"18.

المقصد الثاني: حماية الدين قال الشاطبي: "إن توقير صاحب البدعة مظنة لمفسدتين تعودان بالهدم على الإسلام: إحداهما: الْتفات العامة والجهال إلى ذلك التوقير، والثانية: العدل مع أهل البدع".

في الوقت الذي ندين لله – تعالى – ببغض المبتدع، واستيقان استحقاقه للعقوبة؛ ينبغي أن نلزم أنفسنا بما ألزمنا الله به من العدل والإنصاف؛ فالعدل منهج شرعي في كل شيء، على أن  العدل المحض في كل شيء كما يقول شيخ الإسلام: "متعذر علماً وعملاً، ولكن الأمثل فالأمثل"19 قال الله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}20.

ومن العدل: ذكر ما لهم من صواب وذلك بحسب المقام والحال، واعتبار المصالح والمفاسد؛ والجمع بين ذكر محاسن المبتدع والتحذير منه غير سائغ في كل مقام، وإفراد المحاسن بالذكر مظنة الاغترار، والاقتصار في جميع الأحوال على التحذير، وذكر المثالب بخس وإجحاف، ولكن حسب ما يقتضيه المقام.

ومن العدل: تفاوت الولاء والبراء في حقهم: والأصل في المسلم الموالاة والمحبة، كما أن الأصل في الكافر المعاداة، غير أن المبتدع والفاسق ينقص من موالاتهما بحسب جريرتهما، ولذلك قد يجتمع في المسلم حب وبغض، فيُحَبُّ لما معه من إيمان، ويُبْغَضُ لما اقترفه من بدعة وعصيان قال شيخ الإسلام: "وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، وسنة وبدعة؛ استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، وهذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة"21.

ومن العدل: قبول الحق إذا جاء به أحد منهم: فليس من العدل رد الحق لكون صاحبه على خطأ أو باطل؛ فهما أمران غير متلازمين قال شيخ الإسلام: "فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني – فضلاً عن الرافضي – قولاً فيه حق أن نتركه، أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دونما فيه من الحق"22.

وعلى العموم فأهل السنة لا يحكمون على الفرد المعين لا بجنة ولا نار إلا بدليل خاص، وصاحب البدعة إذا دعا إلى بدعته استحق العقوبة الشرعية، أما إذا أسر بها فإنه يناصح ويوعظ سراً، وينبغي كشف أهل البدع للناس إذا تعدى شرهم إلى غيرهم، ويجب تحذير الناس منهم، والأصل عند أهل السنة عصمة دم المسلمين وأموالهم وأعراضهم، لأن أهل الحق معروف عنهم أنهم أرحم الناس بالناس، فالحق الذي يحملونه، ويدعون الناس إليه، ويريدون تطبيقه في الأرض؛ إنما جاء من عند الله، والله هو أرحم الراحمين، ودينه كله رحمة.

نسأل الله – سبحانه وتعالى – أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، والله أعلم وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.


1 أخرجه الإمام الترمذي (2521)، والإمام أحمد (15190)، وحسنه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي (6/21) برقم (2521).

2 مجموع الفتاوى (28/213).

3 الاعتصام للشاطبي (1/61).

4 مجموع الفتاوى (3/348).

5 المصدر نفسه (28/207).

6 المصدر نفسه (28/221).

7 المائدة (8).

8 الرد على البكري (257).

9 الأحقاف (26).

10 مجموع الفتاوى (الحموية) (5/119).

11 شرح السنة (1/226-227).

12 مجموع الفتاوى (23/342).

13 شرح أصول أهل السنة للالكائي برقم (1140).

14 المصدر نفسه برقم (291).

15 مجموع الفتاوى (15/336).

16 المصدر السابق (24/292).

17 المصدر السابق (28/231).

18 أخرجه أبو نعيم في الحلية بإسناد صحيح كما قال ابن تيمية في منهاج السنة (8/530).

19 مجموع الفتاوى (10/99).

20 المائدة (8).

21 مجموع الفتاوى (28/209).

22 منهاج السنة النبوية (2/342).