وقف الكافر على المسجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الوقف على المشاريع الخيرية من المساجد، والمدارس، ومنافع الناس المختلفة؛ من أعظم القرب إلى الله، وهي الباقيات الصالحات التي تبقى إلى ما بعد موت المسلم، كما قال النبي ﷺ: إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له1
والمقصود بالإنسان هنا المسلم؛ لأن الكافر لا يقبل الله منه عملاً كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (سورة النور:39).
وقال سبحانه: مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ (سورة إبراهيم:18).
ولقولهﷺ في الحديث الشريف: إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً علمه نشره، وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورَّثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته2
وإذا كان عمل الكافر لا يقبل عند الله – تعالى -؛ فهل يجوز وقف الكافر على المسجد؟ وهل يقبله المسلمون أم لا؟
اختلف في هذا على قولين:
القول الأول: يصح وقف الكافر للمسجد، وبهذا قال الجمهور، ومما قاله الشافعية: أن الكافر يثاب على صدقاته في الدنيا، ولكن لا حظ له من الثواب في الآخرة؛ لما أخرجه مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة، يعطى بها في الدنيا، ويجزي بها في الآخرة، وأما الكافر فيُطعَم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يُجزى بها3
ومما علل به الجمهور: أن الوقف صدر ممن يصح تبرعه، وليس هو قربة محضة، والكافر يصح بيعه وشراؤه فوقفه كذلك.
القول الثاني: لا يصح وقف الكافر للمسجد، وبه قال بعض المالكية.
واستدل بعض المالكية: بأن الوقف عبادة؛ لأن الواقف إنما يرجو الثواب، والكافر لا تقبل منه هذه العبادة مع كفره بالله – تعالى -.
ويمكن القول بتفصيل الأمر هنا كالتالي:
إن كان الكافر إنما يوقف المسجد لأهداف خبيثة، وأغراض سيئة؛ فوقفه لا يصح، وينبغي هدم ما يبنيه المشركون لهذا الغرض كما صنع النبي ﷺ في مسجد الضرار، وينبغي ألا يتولى المساجد إلا أهلها المسلمون.
وإن كان الكافر إنما أوقف المسجد براً بعشيرته، وإحساناً إليهم، فهو هبة منه للمسلمين صحيحة بإذن الله تعالى، والمسلمون هم المستفيدون منها بجعلها مسجداً.
والله أعلم.4