رهبـان الليـل
الحمد لله القائل: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُود (الإسراء:79)، والقائل سبحانه: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَام (الفرقان:64)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل: نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الراشدين أمَّا بعدُ:
أخي الكريم: يا له من وصف، ويا له من نعت؛ قد نعت به الرعيل الأول هم من هذه الأمة، إنهم “فرسان في النهار، رهبان بالليل”؛ إنهم من زكوا أنفسهم حتى سهل عليهم قيادتها، فأصبحوا هم السادة لأنفسهم، ولم يقبلوا بأن يكونوا عبيداً لها توجههم حيث شاءت، بل أخذوا أنفسهم بالعزائم، حتى صارت أشق العبادات أحبها إلى نفوسهم.
عباد ليلٍ إذا جنَّ الظلام بهـــم | كم عابد دمعه في الخد أجــراه |
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهـم | هبّـوا إلى الموت يستجدون رؤياه |
روى البخاري عن عبد الله بن عمر قال: “كان الرجل في حياة النبيِّ ﷺ إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله ﷺ، فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله ﷺ وكنت غلامـًا شابـًا، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله ﷺ، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها أناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، قال: فلقينا ملك آخر فقال لي: لم ترع”، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله ﷺ فقال: نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل، فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلاً “1.
وعن أبي هريرة قال رسول الله ﷺ: أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل2، وقال سعيد بن المسيب – رحمه الله -: “إن الرجل ليصلي بالليل فيجعل الله في وجه نوراً يحبه عليه كل مسلم، فيراه من لم يره قط فيقول: “إني لأحب هذا الرجل!!”، وقيل للحسن البصري – رحمه الله -: ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوهاً؟ فقال: لأنهم خلوا بالرحمن؛ فألبسهم من نوره”.
إذا اشتبكت دموع في خدودٍ | تبين منْ بكى مِمَّنْ تباكي |
أخذ الفضيل بن عياض – رحمه الله – بيد الحسين بن زياد – رحمه الله -، فقال له: يا حسين! ينزل الله – تعالى – كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول الرب: كذب من ادَّعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني؟!! أليس كل حبيب يخلو بحبيبه؟!! ها أنا ذا مطلع على أحبائي إذا جنهم الليل …، غداً أقر عيون أحبائي في جناتي.
إذا كان حب الهائمين من الورى | بليلى وسلمى يسلب اللب والعقلا |
فماذا عسى أن يصنع الهائم الذي | سرى قلبه شوقاً إلى العالم الأعلى |
قال ابن الجوزي – رحمه الله -: “لما امتلأت أسماع المتهجدين بمعاتبة “كذب من ادعى محبتي؛ فإذا جنه الليل نام عني” حلفت أجفانهم على جفاء النوم.
عبد الله: إن السلف الصالح وصل حبهم لقيام الليل أنهم كانوا يحزنون حين يذهب، فها هو الإمام سفيان الثوري يقول: “إذا جاء الليل فرحت، وإذا جاء النهار حزنت”3، فكيف لا يحزنون ويحرصون على هذه العبادة وقد كان قدوتهم وحبيبهم ﷺ: “يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه”4 وهم الحريصون على الاقتداء به ليحشروا معه.
وحرصهم على هذه العبادة؛ جعلهم يتعاهدونها جيلاً بعد جيل، فقد كان الآباء يغرسونها في نفوس الأبناء، والأبناء في أبنائهم، فعن معاوية بن قرة أن أباه كان يقول لبنيه إذا صلوا العشاء: “يا بني ناموا لعل الله أن يرزقكم من الله خيراً”5، وكان أبو هريرة – رضي الله عنه – يُقسِّمُ الليل: “فكان يقوم ثلث الليل، وتقوم امرأته ثلث الليل، ويقوم ابنه ثلث الليل؛ إذا نام هذا قام هذا”6، وكان يمتثل حديث النبي ﷺ الذي يقول فيه: رحم الله رجلاً قام من الليل، فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء7
أخي الكريم: إن قيام الليل سهل على من سهله الله عليه، صعب بل وصعب جداً على غيرهم، ومن الأمور الشاقة على نفس البعيد عن الله، ولذا فانظر إلى حال السلف الصالح مع نفوسهم كيف جاهدوها على القيام، فهذا ثابت البناني يقول: “كابدتُ نفسي على القيام عشرين سنة!! وتلذذت به عشرين سنة”، وكان أحد الصالحين يصلي حتى تتورم قدماه فيضربها، ويقول: “يا أمّارة بالسوء؛ ما خلقتِ إلا للعبادة”.
وهذا العبد الصالح عبد العزيز بن أبي روَّاد – رحمه الله – كان يُفرش له فراشه لينام عليه بالليل، فكان يضع يده على الفراش فيتحسسه، ثم يقول: ما ألينك!! ولكن فراش الجنة ألين منك!! ثم يقوم إلى صلاته.
التائبون إلى رحابك أقبلـــوا | عافوا بحبك نومهم فتهجــدوا |
أبواب كل مُمَلك قد أوصـدت | ورأيت بابك واسعاً لا يوصـد |
عبد الله: إن السلف – رحمهم الله – كانوا يعدون تارك القيام محروماً؛ لأنه حُرم من خير كبير، فيه مناجاة الحبيب، وفيه الانتصار على النفس، وفيه الترفع على جواذب الطين، فهذا الحسن البصري – رحمه الله تعالى – يقول: “إذا لم تقدر على قيام الليل، ولا صيام النهار، فاعلم أنك محروم؛ قد كبلتك الخطايا والذنوب”8.
وأخيراً – أخي الحبيب -: قم ولو بركعتين، واختم بهذا الحديثِ؛ قال النبي ﷺ: من قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كُتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين9 والمقنطرون هم الذين لهم قنطار من الأجر. وقال محمد بن سيرين – رحمه الله -: “لابد من قيام الليل ولو بقدر حلب الشاة”10.
اللهم وفقنا لقيام الليل، اللهم أعنا على أنفسنا يا رب العالمين.
والله الهادي إلى سواء السبيل والموفق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.