مواصفات جيل التمكين
الحمد لله وعد المؤمنين بالنصر والتمكين، وجعل العاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وحجة على الخلائق أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنَّ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربـها يتطلعون إلى ذلك اليوم الذي يُعز فيه الحق وأهله، ويمكن في هذه الأرض لجنده وحزبه، ويذل الباطل وأهله، وتكسر شوكة الشرك والمشركين..
ونحن معاشر المسلمين نتطلع إلى ذلك، ونتفاءل به ولا نيأس أبداً؛ لأن الله قد وعد المؤمنين الصادقين بالنصر والتمكين: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} سورة غافر(51).
ولن يكون النصر والتمكين إلا إذا توفرت مواصفات الجيل الذي سيكمن الله له، ومن هذه المواصفات:
أولاً: أنه جيل يوحد الله ويعبده وحده لا شريك له: وينبذ الشرك وعبادة الطاغوت، ويتمسك بالسنة، ويحارب البدعة والخرافة، قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} سورة النــور(55).. قال ابن كثير-رحمه الله-: "هذا وعد من الله تعالى لرسوله -صلوات الله وسلامه عليه- بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي أئمة الناس، والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمنا، وحكما فيهم، وقد فعله تبارك وتعالى وله الحمد والمنة، فإنه -صلى الله عليه وسلم- لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب، وأرض اليمن بكمالها، وأخذ الجزية من مجوس هجر، ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر وإسكندرية وهو المقوقس وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة الذي تملك بعد أصحمة -رحمه الله وأكرمه-.
ثم لما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واختار الله له ما عنده من الكرامة قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق فلمَّ شعث ما وهى بعد موته صلى الله عليه وسلم، وأطد جزيرة العرب ومهدها وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد -رضي الله عنه- ففتحوا طرفاً منها، وقتلوا خلقا من أهلها، وجيشاً آخر صحبة أبي عبيدة -رضي الله عنه- ومن اتبعه من الأمراء إلى أرض الشام، وثالثاً صحبة عمرو بن العاص -رضي الله عنه- إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفهما من بلاد حوران، وما والاها وتوفاه الله -عز وجل- واختار له ما عنده من الكرامة، ومنَّ على أهل الإسلام بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق، فقام بالأمر بعده قياماً تاماً لم يدر الفلك بعد الأنبياء على مثله في قوة سيرته، وكمال عدله، وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها، وديار مصر إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس وكسر كسرى، وأهانه غاية الهوان، وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقصر قيصر، وانتزع يده عن بلاد الشام، وانحدر إلى القسطنطينية، وأنفق أموالهما في سبيل الله كما أخبر بذلك، ووعد به رسول الله عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة.
ثم لما كانت الدولة العثمانية1 امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك الأندلس وقبرص وبلاد القيروان وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى، وباد ملكه بالكلية، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا، وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان، وجبى الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن، ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الله زوي لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ويبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها)2 فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، فنسأل الله الإيمان به وبرسوله، والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا"3..
ثاني مواصفات جيل التمكين: الإيمان الصادق، والعمل الصالح: لقوله تعالى في الآية السابقة: {الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ}؛ ولقوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} سورة الروم(47) فإذا ما وجد الإيمان الصادق والعمل الصالح فإن النصر والتمكين سيوجد لأن الله علق النصر والتمكين بالإيمان، ولكن ليس أي إيمان بل إيمان حقيقي؛ كما يقول سيد: "إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله؛ وتوجه النشاط الإنساني كله، فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله؛ لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله؛ وهي طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة، لا يبقى معها هوى في النفس، ولا شهوة في القلب، ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عند الله.. فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله، بخواطر نفسه، وخلجات قلبه، وأشواق روحه، وميول فطرته، وحركات جسمه، ولفتات جوارحه، وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعاً.. يتوجه بهذا كله إلى الله"4..
ثالث صفة من مواصفات جيل التمكين: أنه جيل متواضع مع المؤمنين عزيز على الكافرين: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} (54) سورة المائدة } سورة المائدة(54)، قال الشنقيطي -رحمه لله-: "أَخبرَ تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة أنهم إن ارتد بعضهم فإن الله يأتي عوضاً عن ذلك المرتد بقوم من صفاتهم الذل للمؤمنين، والتواضع لهم ولين الجانب، والقسوة والشدة على الكافرين، وهذا من كمال صفات المؤمنين، وبهذا أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فأمره بلين الجانب للمؤمنين، بقوله: {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} سورة الحجر(88)، وقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} سورة الشعراء(215)، وأمَره بالقسوة على غيرهم بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} سورة التوبة (73)، وأثنى تعالى على نبيه باللين للمؤمنين في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِك} سورة آل عمران(159)، وصرح بأن ذلك المذكور من اللين للمؤمنين، والشدة على الكافرين من صفات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- بقوله: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُم} سورة الفتح(29).
وقد قال الشاعر في رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
وما حملت من ناقة فوق رحلها *** أبر وأوفى ذمة من محمد
وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه *** وأمضى بحد المشرفي المهند
وقال الآخر فيه:
وما حملت من ناقةٍ فوق رحلها *** أشد على أعدائه مِن محمد
ويفهم من هذه الآيات أن المؤمن يجب عليه أن لا يلين إلا في الوقت المناسب للين، وأن لا يشتد إلا في الوقت المناسب للشدة؛ لأن اللين في محل الشدة ضعف وخور، والشدة في محل اللين حمق وخرق، وقد قال أبو الطيِّب المتنبي:
إذا قيل حلم قل فللحلم موضع *** وحلم الفتى في غير موضعه جَهل5.
ومن مواصفات جيل التمكين: أنـه جيل مجاهد في سبيل الله بكافة أنواع الجهاد وأساليبه: قال تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله، وقتال أعدائه، وإقامة الحدود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يردهم عن ذلك راد، ولا يصدهم عنه صاد، ولا يحيك فيهم لوم لائم، ولا عذل عاذل"6.
والله -تبارك وتعالى- قد اشترى من المؤمنين أنفسهم من أجل الجهاد في سبيله، ونصر دينه؛ قال جل شأنـه: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} سورة التوبة(111).. والحديث عن الجهاد وأثره في إعزاز أمة الإسلام ونصرة دين الله يطول، ولكن يكفي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر في الأحاديث الصحيحة أن الأمة سيصيبـها الذل والصغار إن هي تركت الجهاد في سبيله، وأنـه لا يُرفع عنـها لباس الذل والهوان إلا بالعودة الصادقة إلى ممارسة هذه الشعيرة، وتربية الأجيال على معانيها، وطلب معاليها، يقول سيد -رحمه الله-: "والعذاب الذي يتـهددهم ليس عذاب الآخرة وحده؛ فهو كذلك عذاب الدنيا، عذاب الذلة التي تصيب القاعدين واستغلالها للمعادين، وهم كذلك يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون من الكفاح والجهاد، ويقدمون على مذابح الذل أضعاف ما تتطلبـه منـهم الكرام لو قدموا لها الغداء، وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب عليها الذل فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبـه منـها كفاح الأعداء"7.
وقد مثل جيل الصحابة -رضوان الله عليهم- النموذج الفذ في تطبيق متطلبات الجهاد والشوق إلى ما عند الله، وذلك لأن هذا جيل الصحابة جيل فريد، جيل أحب الله وأحب لقاءه، فكان يبحث عن أيسر السبل التي توصله إلى محبوبة، فوجد في حب الشهادة والاستشهاد وامتطاء صهوة جوادها الوسيلة المثلى لتحقيق هذا المبتغى.
فكانت تحيتـهم هذه نقيض ما قاله من كانوا مع موسى عليه السلام: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} سورة المائدة(24) بل قال أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون".. فماذا قلنا نحن؟!.
ومن مواصفات جيل التمكين: أنه جيل تربى على الصبر والثبات على المبدأ مهما ادلهمت الخطوب: قال تعالى عن يوسف -عليه السلام- لما مكن الله في الأرض: {قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} سورة يوسف(90) فقد ابتلي يوسف فصبر ولم يحيد عن مبادئه قيد أنملة، فكان أن مكنه الله في هذه الأرض.. وغير ذلك من المواصفات للجيل الذي سيمكنه الله -تبارك وتعالى-..
وفي الأخير: فإن المسلمين اليوم يتطلعون ويترقبون هذا الجيل الفريد من نوعه وصفاته، ذلك الجيل الذي سيكون التمكين له بإذن الله.. فإن لم نكن نحن ذلك الجيل فلنكن سبباً في إيجاده، ولنهيئ الجو له، وذلك بتربية أولادنا على حب الله وعبادته وحده لا شريك له، والجهاد في سبيل الله بكافة أنواع وأساليبه بالبنان واللسان والسنان، والصبر والثبات على المبادئ الإسلامية والأخلاق المحمدية.. نسأل الله أن ينصر دينه، وأن يمكن لعباده المجاهدين في سبيله، وأن يقمع المشركين والمنافقين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 يقصد ابن كثير بالدولة العثمانية دولة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-, وليس الدولة العثمانية المعروفة التي يطلق عليها الناس هذا الاسم، لأنها جاءت بعد ابن كثير رحمه الله تعالى.
2 رواه مسلم من حديث ثوبان.
3 تفسير القرآن العظيم(3/401).
4 في ظلال القرآن(5/292)
5 أضواء البيان(1/440).
6 تفسير القرآن العظيم(2/97).
7 في ظلال القرآن(4/31).