واجعلنا للمتقين إماماً
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
من المفترض ألا يكون إمام المسجد مجرد إمام يؤم الناس في الصلاة ثم ينصرف، بل إن كلمة “إمام” أعم من ذلك وأشمل؛ فهي تعني تقدم الصلاة كما تعني اقتداء الناس به جاء في المعجم الوسيط: “(الإمام) من يأتم به الناس من رئيس أو غيره، ومنه إمام الصلاة”1، وجاء في المصباح المنير: “و(الإِمَامُ): الخليفة، و(الإِمَامُ): العالم المقتدى به، و(الإِمَامُ): من يؤتم به في الصلاة”2.
ولعلنا اليوم نوجه الضوء على أحد هذه المعاني وهو معنى مهم لابد أن يستحضره كل إمام للناس في الصلاة، فإمام المسجد هو في الأصل إمام يقتدى به، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك عندما ذكر دعاء عباد الرحمن: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا 3، فيسألون الله – تعالى – أن يجعلهم قدوات يقتدي بهم الناس، وهذا ما يجب على أئمة المساجد؛ فهم تحت ملاحظة دائمة من المجتمع، يقتدي بهم الناس في أفعالهم وأقوالهم، وحتى أفكارهم وآرائهم.
وينبغي أن يُعلم أن هذا الدعاء هو مما كان السلف يدعون به: قال ابن عبد البر – رحمه الله -: “وأما قول ابن عمر : “اللهم اجعلني من أئمة المتقين” فهو عندي مأخوذ من قول الله : وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا، وفي هذا الأسوة الحسنة أن تكون همة المؤمن تدعوه إلى أن يكون إماماً في الخير، وإذا كان إماماً في الخير كان له أجره وأجر من عمل بما علمه، وائتم به فيما علمه، وأجزاه عنه”4، فلا يكفي كون الإمام يقتدي به الناس بدون طلب منه، بل لا بد أن يكون صاحب همة عالية يسأل ربه أن ييسر له اقتداء الناس به في الخير والمعروف كما يسر له اقتداء الناس به في الصلاة، وهذا هو معنى الآية قال ابن كثير – رحمه الله -: “وقوله تعالى: واجعلنا للمتقين إماماً قال ابن عباس والحسن والسدي وقتادة والربيع بن أنس: أئمة يقتدى بنا في الخير، وقال غيرهم: هداة مهتدين، دعاة إلى الخير؛ فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم، وأن يكون هداهم متعدياً إلى غيرهم بالنفع، وذلك أكثر ثواباً، وأحسن مآباً؛ ولهذا ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده، أو صدقة جارية 5“6، وكما يوجد أئمة في الهدى فإنه يوجد أئمة في الضلال قال تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ7، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في كتابه الحسنة والسيئة: “واجعلنا للمتقين إماماً أي: فاجعلنا أئمةً لمن يقتدي بنا ويأتم، ولا تجعلنا فتنةً لمن يضل بنا ويشقى”8، وليس فقط يُقتدى بنا بل نقتدي بمن سبقنا في الهدى، ويقتدي بنا الناس، يقول صاحب كتاب العلم: “عن مجاهد واجعلنا للمتقين إماماً قال: فنأتم بهم، ونقتدي بهم؛ حتى يقتدي بنا من بعدنا”9، وفي هذا إمكان طلب الإمامة في الدين قال ابن عطية – رحمه الله -: “وقوله تعالى: للمتقين إماماً قيل: هو جمع آم، مثل: قائم وقيام، وقيل: هو مفرد اسم جنس، أي: اجعلنا يأتم بنا المتقون، وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقياً قدوة، وهذا هو قصد الداعي، قال إبراهيم النخعي: لم يطلبوا الرياسة بل أن يكونوا قدوة في الدين؛ وهذا حسن أن يطلب ويسعى له”10.
ومنزلة الإمامة في الدين منزلة علية، لا يُوفق لها إلا من وفقه الله – تعالى -، فهي تحتاج إلى جهد كبير، وصبر يتحمل به صاحبه عقبات الطريق، ويقين يثبت صاحبه على الحق، ويمنحه القوة في الاستمرار على طلب المعالي، ونيل القمم العوالي يقول الإمام السعدي – رحمه الله -: واجعلنا للمتقين إماماً أي: أوصلنا يا ربنا إلى هذه الدرجة العالية؛ درجة الصديقين والكمَّل من عباد الله الصالحين، وهي درجة الإمامة في الدين، وأن يكونوا قدوة للمتقين في أقوالهم وأفعالهم؛ يُقتدى بأفعالهم، ويطمئن لأقوالهم، ويسير أهل الخير خلفهم، فيهدون ويهتدون، ومن المعلوم أن الدعاء ببلوغ شيء؛ دعاء بما لا يتم إلا به، وهذه الدرجة درجة الإمامة في الدين لا تتم إلا بالصبر واليقين كما قال – تعالى -: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ 11،فهذا الدعاء يستلزم من الأعمال والصبر على طاعة الله، وعن معصيته، وأقداره المؤلمة، ومن العلم التام الذي يوصل صاحبه إلى درجة اليقين؛ خيراً كثيراً، وعطاءً جزيلاً، وأن يكونوا في أعلى ما يمكن من درجات الخلق بعد الرسل؛ ولهذا لما كانت هممهم ومطالبهم عالية؛ كان الجزاء من جنس العمل، فجازاهم بالمنازل العاليات فقال: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا 12، أي: المنازل الرفيعة، والمساكن الأنيقة الجامعة لكل ما يشتهى وتلذه الأعين؛ وذلك بسبب صبرهم؛ نالوا ما نالوا كما قال تعالى: وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ 13؛ ولهذا قال هنا: وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا 14 من ربهم، ومن ملائكته الكرام، ومن بعض على بعض، ويسلمون من جميع المنغصات والمكدرات”15.
نسأل الله أن يجعلنا أئمة للمتقين، هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وعملاً وتقوى وصلاحاً إنه هو الجواد الكريم، وصلي اللهم على سيدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
1 المعجم الوسيط (1/27).
2 المصباح المنير (1/23).
3 سورة الفرقان (74).
4 الاستذكار (2/542).
5 رواه مسلم (3084).
6 تفسير ابن كثير (3/331).
7 سورة القصص (41).
8 الحسنة والسيئة (1/74).
9 كتاب العلم (1/12).
10 تفسير ابن عطية: سورة الفرقان، آية (74).
11 سورة السجدة (24).
12 سورة الفرقان (75).
13 سورة الرعد (23-24).
14 سورة الفرقان (75).
15 تفسير السعدي (1/588).