من أحكام النذر

 

 

من أحكام النذر

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد خلق الله -تبارك وتعالى- الخلق  ليعبدوه وحده لا شريك له: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}سورة الذاريات(56).

بل وجعل العبادة له وحده لا شريك له حقا من حقوقه تعالى؛ فعن معاذ بن جبل قال: كنت رديف رسول الله  على حمار يقال له: عفير، قال فقال: (يا معاذ تدري ما حق الله على العباد وما حق الله على العباد؟) قال: قلت الله ورسوله أعلم، قال: (فإنَّ حق الله على العباد أن يعبدواالله ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله -عز وجل- أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً) قال: قلت يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: (لاتبشرهم فيتكلموا)1.

والعبادة كما عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أنها: “اسم جامع لكلما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة”2..

وكل عبادة لا يجوز صرفها لغير الله –تعالى- ولو كان نبياً مرسلاً، أو ملَكَا مقرباً، فضلاً عن غيرهما، ومن العبادة التي لا يجوز صرفها لغير الله -تعالى-النذر..

والنذر كما يعرفه العلماء: “إلزام المكلف نفسه عبادة لم تكن لازمة بأصل الشرع”3.

وقد دلت الأدلة على فضيلة الوفاء بالنذر، بل على وجوب الوفاء به إذا كان طاعة لله؛قول الله -تعالى-:  {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ}سورة البقرة(270)؛ وقال تعالى: {وَلْيُوفُوانُذُورَهُمْ} سورة الحـج(29)؛ وقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}سورة الإنسان(7).

وفي الحديث عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي   قال: (مننذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه)4.

وقد أجمع المسلمون على صحة النذر في الجملة،قال النووي -رحمه الله-: “أجمع المسلمون على صحة النذر ووجوب الوفاء به إذا كان الملتزم طاعة، فإن نذر معصية أو مباحاً كدخول السوق لم ينعقد نذره ولا كفارة عليه عندنا- أي عند الشافعية- وبه قال جمهور العلماء”5.

والأولى للإنسان أن لا ينذر ولو كان نذر طاعة؛ لأن النذر ابتداؤه مكروه، بل ذهب بعض العلماء إلى تحريمه؛ لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: نهى النبي  عن النذر، قال: (إنه لا يرد شيئاً، وإنما يستخرج به من البخيل)6.. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “وإنما نهى عنه لأنه لا فائدة فيه إلاالتزام ما التزمه، وقد لا يرضى به فيبقى آثما، وإذا فعل تلك العبادات بلا نذر كان خيرا له، والناس يقصدون بالنذر تحصيل مطالبهم، فبين النبي   أنالنذر لا يأتي بخير، فليس النذر سببا في حصول مطلوبهم، وذلك أن الناذر إذا قال: لله علي إن حفَّظني الله القرآن أن أصوم مثلا ثلاثة أيام، أو إن عافاني الله من هذا المرض، أو إن دفع الله هذا العدو، أو إن قضى عنى هذا الدين؛ فعلت كذا، فقد جعل العبادة التي التزمها عوضا عن ذلك المطلوب، والله –سبحانه- لا يقضي تلك الحاجة بمجرد تلك العبادة المنذورة، بل ينعم على عبده بذلك المطلوب ليبتليه أيشكر أم يكفر،وشكره يكون بفعل ما أمره به، وترك ما نهاه عنه،

وأما تلك العبادة المنذورة فلا تقوم بشكر تلك النعمة، ولا ينعم الله تلك النعمة ليعبده العبد تلك العبادة المنذورة التي كانت مستحبة فصارت واجبة؛ لأنه سبحانه لم يوجب تلك العبادة ابتداء، بل هو يرضى من العبد بأن يؤدي الفرائض ويجتنب المحارم، لكن هذا الناذر يكون قد ضيع كثيرا من حقوق الله ثم بذل ذلك النذر لأجل تلك النعمة، وتلك النعمة أجل من أن ينعم الله بها لمجرد ذلك المبذول المحقر، وإن كان المبذول كثيرا والعبد مطيع لله فهو أكرم على الله من أن يحوجه إلى ذلك المبذول الكثير فليس النذر سببا لحصول مطلوبه كالدعاء، فإن الدعاء من أعظم الأسباب، وكذلك الصدقة وغيرها من العبادات جعلها الله -تعالى- أسبابا لحصول الخير ودفع الشر إذا فعلها العبد ابتداء، وأما ما يفعله على وجه النذر فإنه لا يجلب منفعة ولا يدفع عنه مضرة، لكنه كان بخيلا، فلما نذر لزمه ذلك، فالله تعالى يستخرج بالنذر من البخيل فيعطى على النذر ما لم يكن يعطيه بدونه”7.

فإذا كان النذر لله فيما هو طاعة له مكروهاً، بل حرام عند بعض العلماء، فما حكم نذرالمعصية أو النذر الذي يكون لغير الله كالنذر للقبور والأموات ونحو ذلك؟!

ومن النذر ما يكون معصية وشركاً بالله ولو كان الإنسان يقصد به وجه الله: إذا كان في مكان يعبد فيه غير الله؛ لحديث ثابت بن الضحاك أن رجلا أتي النبي   فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة-موضع وراء ينبع-، فقال: (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟) فقالوا: لا، قال: (فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟) قالوا: لا، قال: (أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم)8.

ففهم من هذا الحديث أن النذر في الأماكن الشركية والبدعية لا يجوز وأنه من التشبه بالكافرين، ولو كانت النية في الذبح أنه لله، لكن وجود المحل الشركي يحوله إلى معصية.

وقد ذكر العلماء أنه يشترط لانعقاد نذر الطاعة أن يكون الناذر بالغا عاقلا مختارا:لحديث ابن عباس أن رسول الله   قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم؟)9؛ فدل الحديث على أنه لا يلزم النذر من هؤلاء: لرفع القلم عنهم.وإذا نذر الكافر نذراً لزمه الوفاء به إذا أسلم: لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن عمر سأل النبي   قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ قال: (فأوف بنذرك)10.. ففي هذا الحديث بيان أن النذر من الكافر صحيح منعقد، يجب عليه الوفاء به.

والنذر الذي توفرت فيه شروط الصحة يكون على خمسة أقسام: (ذكرها الشيخ صالح الفوزان):

أحدها: النذر المطلَق،مثل أن يقول: لله علي نذر، ولم يسم شيئاً: فيلزمه كفارة يمين، سواء كان مطلقا أو معلقا: لما روى عقبة بن عامر قال: قال رسول الله  : (كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين)11: فدل هذا الحديث على وجوب الكفارة إذا لم يسم ما نذر لله -عز وجل-.

الثاني: نذر اللجاج والغضب،وهو تعليق نذره بشرط يقصد المنع منه أو الحمل عليه أو التصديق أو التكذيب: كما لو قال: إن كلمتك، أو: إن لم أخبر بك، أو: إن لم يكن هذا الخبر صحيحاً، أو: إن كان كذباً، فعلي الحج أو العتق.. ونحو ذلك: فهذا النذر يخير بين فعل ما نذره أو كفارة يمين؛ لحديث عمران بن حصين: قال: سمعت رسول الله   يقول: (لانذر في غضب، وكفارته كفارة يمين)12.

الثالث: نذر المباح، كما لو نذر أن يلبس ثوبه أو يركب دابته، ويخير بين فعله وبين كفارة يمين إن لم يفعله: كالقسم الثاني، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنه لا شيء عليه في نذر المباح: لما روى الإمام البخاري: بينما النبي   يخطب، إذا هو برجل قائم،فسأل عنه: فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم وأن يصوم، فقال: (مروه فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه).

الرابع: نذر المعصية،كنذر شرب الخمر وصوم أيام الحيض ويوم النحر: فلا يجوز الوفاء بهذا النذر: لقول النبي  : (من نذر أن يعصي الله فلا يعصه)؛ فدل هذا الحديث على أنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية: لأن المعصية لا تباح في حال من الأحوال، ومن نذر المعصية النذر للقبور أو لأهل القبور، وهو شرك أكبر، ويكفر عن هذا النذر كفارة يمين عند بعض أهل العلم… وذهب جماعة من أهل العلم إلى عدم انعقاد نذر المعصية، وأنه لا يلزمه به كفارة.. واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: “ومن أسرج قبرا أو مقبرة أو جبلا أو شجرة أو نذر لها أو لسكانها أو المضافين إلى ذلك المكان لم يجز، ولا يجوز الوفاء به إجماعاً، ويصرف في المصالح ما لم يعلم ربه، ومن الجائز صرفه في نظيره من المشروع”13.

الخامس: نذر التبرر،وهو نذر الطاعة كفعل الصلاة والصيام والحج ونحوه، سواء كان مطلقا (أي غير معلق على حصول شرط): كما لو قال: لله علي أن أصلي أو أصوم..، أو معلقا على حصول شرط؛ كقوله: إن شفى الله مريضي فلله علي كذا، فإذا وجد الشرط لزمه الوفاء به: لقوله  : (من نذر أن يطيع الله فليطعه)؛ ولقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}؛ ولقوله تعالى: {وَلْيُوفُوانُذُورَهُمْ}.14

والله نسأل أن يجعلنا من الموفين بالنذور والعهود، وصلى الله وسلم على صاحب الحوض المورود، واللواء المعقود، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين..


1 رواه البخاري ومسلم وللفظ له.

2 مجموع الفتاوى(10/150).

3 تيسير العلام شرح عمدة الأحكام، باب النذر، للشيخ عبد الله البسام.

4 رواه البخاري.

5 المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج(11/96). الناشر: دار إحياء التراث العربي– بيروت. الطبعة الثانية (1392هـ.

6 رواه البخاري ومسلم.

7 مجموع الفتاوى(10/420- 421).

8 رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، رقم(2834).

9 رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم(3512 ).

10 رواه البخاري.

11 رواه ابن ماجه والترمذي ، وقال : ” حسن صحيح غريب “، وقال الألباني: “صحيح” كما في صحيح الجامع، رقم (4488) وضعف لفظة : “إذا لم يسم”؛ كما في ضعيف الجامع، رقم (5862).

12 رواه النسائي، وأحمد، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، رقم(6311 ).

13 الفتاوى الكبرى(5/553). الناشر: دار المعرفة- بيروت. الطبعة الأولى (1386). تحقيق: حسنين مخلوف.

14 انظر:  الملخص الفقهي (796- 798). للفوزان. طبعة دار البصيرة الإسكندرية.