أنت مع من تحب

أنت مع من تحب

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، أما بعد:

فإن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصل عظيم من أصول الدين، فلا إيمان لمن لم يكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين.

وهذا درس بعنوان "أنت مع من تحب" أحببنا من خلاله بيان من ينبغي لنا أن نكون معه؛ لنحبه فيحصل لنا ما أردنا، وهو محمد -صلى الله عليه وسلم-، ونسأل الله التوفيق والسداد:

أولا: معنى الحب في اللغة:

الحُبُّ: الوِدادُ.1

وقال بعضهم: الحب أصله في لغة العرب الصفاء؛ لأن العرب تقول لصفاء الأسنان حبب، وقيل مأخوذ من الحُباب الذي يعلوا المطر الشديد وعليه عرفوا المحبة بأنها: غليان القلب عند الاحتياج للقاء المحبوب، وقيل غير ذلك.2

ثانيا: معنى الحب بين الناس:

وأما كلام الناس في وصفه فقيل هو ميل القلب للمحبوب، وموافقة الحبيب في وجوده وغيبته، وأن يستولي ذكر المحبوب على قلب المحب، وأن تهب نفسك وروحك لمن أحببته، وإلا تفكر في أحد غيره، وأن تغار عليه وأن تحفظ حدوده، وتقوم لمحبوبك بكل ما يحبه منك، وأن يعمى القلب عن رؤية غير المحبوب.3

ثالثا: الدافع للكلام عن هذا الموضوع:

الحب أسمى العلاقات، ولعله أرقها، وإنما يبعث على الكلام عن مثل هذا الموضوع قول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: (أنت مع من أحببت)4، وأي سعادة تقارب تلك السعادة في الحب؟ وأي نجاح في النهاية يوازي ذلك الحب؟

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإنما ينفع العبدَ الحبُّ لله لما يحبه الله من خلقه كالأنبياء والصالحين؛ لكون حبهم يقرب إلى الله ومحبته، وهؤلاء هم الذين يستحقون محبة الله لهم".5

وإذا تعلق قلب العبد بالله أحب كل ما يقرب إلى الله ويزيده، ويبقى أنه أشد حباً لله، فلا حب يوازي ذلك الحب، وإنما يحب بحب الله وله.

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإنك إذا أحببت الشخص لله كان الله هو المحبوب لذاته، فكلما تصورته في قلبك تصورت محبوب الحق فأحببته، فازداد حبك لله، كما إذا ذكرت النبي -صلى الله عليه وسلم- والأنبياء قبله، والمرسلين وأصحابهم الصالحين، وتصورتهم في قلبك، فإن ذلك يجذب قلبك إلى محبة الله المنعِم عليهم، وبهم إذا كنت تحبهم لله؛ فالمحبوب لله يجذب إلى محبة الله، والمحب لله إذا أحب شخصاً لله فإن الله هو محبوبه؛ فهو يحب أن يجذبه إلى الله تعالى، وكل من المحب لله والمحبوب لله يجذب إلى الله".6

رابعاً: حقيقة المحبة:

المحبة ليست قصصا تُروى، ولا كلمات تقال، ولا ترانيم تُغنى، المحبة لا تكون دعوة باللسان، ولا هياما بالوجدان، وإنما هي طاعة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، المحبة عمل بمنهج الرسول -صلى الله عليه وسلم-، تتجلى في السلوك والأفعال والأقوال.7

والحب من أرفع المقامات، وهو سلوة الفؤاد، وريحانة الظهير، الحب دوحة غناء، وظل وارف، الحب إخلاص وصفاء ونقاء، نعم.. بالحب تصفو الحياة وتشرق الشمس ويرقص القلب، وبالحب تُغفر الزلات وتقال العثرات وترفع الدرجات، ولولا الحب ما التف الغصن على الغصن، ولا بكى الغمام على جدب الأرض، ولا ضحكت الأرض لزهر الربيع، وحين ينتهي الحب ويضيع، تظلم النفوس وتضيق الصدور، فلله در الحب كم أضاع من وقت؟ وكم أسر من فؤاد؟ وكم أذهب من عقل؟ فما أجمل الحب وما أكثر مدعيه؟

جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأله عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: (وماذا أعددت لها) قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (أنت مع من أحببت).

قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أنت مع من أحببت). قال أنس: فأنا أحب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم.8

وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! كيف تقول في رجل أحب قوماً ولم يلحق بهم؟ فقال: (المرء مع من أحب).9

وعن الحسن في قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (31) سورة آل عمران، قال: وكان علامة حبه إياهم إتباع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

قال ابن كثير -رحمه الله-: "هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله كما ثبت في الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:" مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ " ولهذا قال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}، أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض العلماء الحكماء: ليس الشأن أن تُحِب إنما الشأن أن تُحَب.

وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية فقال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}." أ،ه10

وقال الحافظ ابن حجر في بيان دلالة الآية السابقة: فدلت الآية أنها لا تحصل إلا باتباع الرسول، ودلَّ الخبر على أن اتباع الرسول وإن كان الأصل أنه لا يحصل إلا بامتثال جميع ما أمر به أنه قد يحصل من طريق التفضل باعتقاد ذلك وإن لم يحصل استيفاء العمل بمقتضاه، بل محبة من يعمل ذلك كافية في حصول أصل النجاة، والكون مع العاملين بذلك لأن محبتهم إنما هي لأجل طاعتهم، والمحبة من أعمال القلوب فأثاب الله محبهم على معتقده، إذ النية هي الأصل والعمل تابع لها، وليس من لازم المعية الاستواء في الدرجات.أهـ.11

خامسا: وجوب محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم-:

جاء عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له عمر يا رسول الله: لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك)، فقال له عمر: فإنه الآن، والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الآن يا عمر).12

وبذلك يُعلم أن محبته -صلى الله عليه وسلم- أصل من أصول الدين، فلا إيمان لمن لم يكن الرسول حبيبه، لأن محبته شعبة من محبة الله تعالى.13

سادساً: بواعث محبة النبي -صلى الله عليه وسلم-:

1- موافقة مراد الله تعالى في محبته:

لما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو أحب الخلق إلى الله تعالى، فقد اتخذه خليلاً وأثنى عليه ما لم يثن على غيره، كان لزاما على كل مسلم أن يحب ما يحب الله وذلك من تمام محبته سبحانه.

2- مقتضى الإيمان:

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبينا أن من مقتضى الإيمان حب النبي -صلى الله عليه وسلم- وإجلاله وتوقيره (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين).14

3- مميزات النبي -صلى الله عليه وسلم-:

فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أ شرف الناس وأكرم الناس وأطهر الناس وأعظم الناس في كل شيء، وهذه كلها دواعي لأن يكون -صلى الله عليه وسلم- أحب الناس.

4- شدة محبته لأمته وشفقته عليها ورحمته بها:

كما وصفه ربه {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (128) سورة التوبة، ولذلك أرجأ استجابة دعوته شفاعة لأمته غداً يوم القيامة.

5- بذل جهده الكبير في دعوة أمته، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور.15

نماذج من حب الصحابة للنبي -صلى الله عليه وسلم-:

لقد أحب الصحابة الكرام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حباً ليس له نظير وصل إلى درجة أن افتدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم وآبائهم، ومن أمثلة ذلك:

* علي ابن أبي طالب ونومه في فراش النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة أن أراد المشركون قتله، وسئل علي بن أبي طالب كيف كان حبكم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ.16

* قصة قتل زيد بن الدثنة، قال ابن إسحاق: اجتمع رهط من قريش، فيهم أبو سفيان بن حرب؛ فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وأني جالس في أهلي، قال: يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداًً.17

* وعن سعد بن أبي وقاص قال: مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها، وأخوها، وأبوها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأحد، فلما نعوا لها قالت: ما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟

قالوا: خيراً يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين.

قالت: أرونيه حتى أنظر إليه.

قال: فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل.18

فاللهم إنَّا نسألك حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يبلغنا إلى حبك، وصلى الله وسلم على أشرف خلق الله، محمد بن عبد الله، والحمد لله رب العالمين.


1 القاموس المحيط للفيروزآبادي (1/44).

2 من كتاب: الحب بين الله وعباده، لنبيل عطوه، ص: (2).

3 من كتاب: الحب بين الله وعباده،ص: (2).

4 رواه البخاري (3485).

5 مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: (10/610).

6 المرجع السابق: (10/608).

7 من مقال لسلمان بن يحي المالكي، بعنوان: "أنت مع من أحببت"، المصدر: http://saaid.net.

8 رواه البخاري (3485).

9 رواه البخاري (5817).

10 تفسير القرآن العظيم لإسماعيل بن عمر بن كثير (1/477).

11 فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر: دار المعرفة – بيروت، 1379هـ (10/558).

12 رواه البخاري برقم (6257).

13 من مقال لسلمان بن يحي المالكي، بعنوان: "أنت مع من أحببت"، المصدر: http://saaid.net.

14 رواه البخاري (14).

15 حقيقة محبة النبي صلى الله عليه وسلم: د: أبو صهيب الرهواني: المصدر:http://www.saaid.net.

16 المصدر السابق.

17 سيرة ابن هشام (4/125).

18 البداية والنهاية لابن كثير- مكتبة المعارف – بيروت (4/47).