إن خير من استأجرت القوي الأمين
إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن الله -تبارك وتعالى- قد قص علينا في القرآن كثيراً من القصص، وفي مقدمة هذه القصص قصص الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، وذلك من أجل العبرة والعظة، قال الله بعد أن ذكر قصة يوسف -عليه السلام-: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} سورة يوسف(111).
ومن هذه القصص: "خبر موسى مع شعيب -عليهما السلام- حين جاء مدين، ووجد ابنتين لشعيب قد منعتا غنمهما من الورود بانتظار ذهاب الرعاء وفراغ المكان، وما حدث من تطوع موسى بالسقيا لهما، وما كان من أمر شعيب حين بلغه ما قام به موسى حيث أرسل له يطلبه ليجزيه على ذلك، وذكر لنا القرآن الكريم كذلك نصيحة ابنة شعيب لأبيها باستئجاره، وعللت ذلك بقوة موسى وأمانته، ويذكر المفسرون أن شعيباً -عليه السلام- أثارت حفيظته الغيرة من كلامها، فقال: وما علمك بقوته وأمانته؟ فذكرت له أن موسى حمل حجراً من فوق فوهة البئر، لا يحمله في العادة إلا النفر من الناس وتلك قوته، وأنه حين ذهبت تكلمه أطرق رأسه، ولم ينظر إليها، كما أنه أمر المرأة أن تمشي وراءه، حتى لا تصيب الريح ثيابها فتصف ما لا تحل له رؤيته وتلك أمانته1.
وقد صدق ظنها فهي ما رأت إلا نبياً من أولي العزم المؤتمنين على الوحي، الأشداء الأقوياء، قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "أفرس الناس ثلاثة: بنت صاحب مدين حيث قالت: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} سورة القصص(26)، وامرأة العزيز حيث قالت: {عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} سورة يوسف(21)، وأبو بكر حيث استخلف عمر2 على المسلمين.
لقد جمعت ابنة شعيب -عليه السلام- في تعليلها المختصر ذاك بين أمرين عظيمين، يندرج تحتهما معظم الكمالات الإنسانية، وهما الأمانة والقوة، وهذه وقفات سريعة معهما:
الوقفة الأولى: ليست الأمانة هنا إلا رمزاً لما يستلزمه الإيمان بالله تعالى من المحامد كالإخلاص والأمانة والصدق والصبر والمروءة، وأداء الفرائض والكف عن المحرمات؛ وقد قال أكثر المفسرين في قوله سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} سورة الأحزاب(72) الآية .. إن المراد بها التكاليف الشرعية عامة3، وقد وصفت ابنة شعيب موسى بالأمانة لغضه طرفه، ومشيه أمامها. أما القوة فهي رمز لمجموع الإمكانات المادية والمعنوية التي يتمتع بها الإنسان.
الوقفة الثانية: الأمانة والقوة ليستا شيئين متوازيين دائماً، فقد يتحدان، وقد يتقاطعان فالصبر جزء من الأمانة؛ لأنه قيمة من القيم، وهو في ذات الوقت قوة نفسية إرادية، وإذا كان العلم من جنس القوة، فإنه يولد نوعاً من الأمانة؛ إذ أهله أولى الناس بخشية الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} سورة فاطر(28) والإيمان أجل القيم الإسلامية، فهو من جنس الأمانة، ومع ذلك فإنه يولد لدى الفرد طاقة روحية هائلة تجعله يصمد أمام الشدائد صمود الجبال، ومن ثم كانت الظاهرة الإسلامية العالمية: ظاهرة (المسلم لا ينتحر)!. إن هذا التلاقي بين الأمانة والقوة يمثل بعض الأرضية المشتركة لتلاقي أهل الأمانة وأهل القوة، كما يجعل التحقق من إحداهما المعبر للتحقق من الأخرى.
الوقفة الثالثة: سوف يظل النمط الذي يجمع بين القوة والأمانة نادراً في بني الإنسان وكلما اقتربا من الكمال في شخص صار وجوده أكثر ندرة، والقوي الذي لا يؤتمن، والموثوق العاجز هم أكثر الناس، والذين فيهم شيء من القوة وشيء من الأمانة كثيرون، وقد روي عن عمر -رضي الله عنه-: "أشكو إلى الله جَلَد الفاجر وعجز الثقة"4، فكل منهما لا يمثل المسلم المطلوب، ودخل عمر أيضاً على لفيف من الصحابة في مجلس لهم فوجدهم يتمنون ضروباً من الخير، فقال: "أما أنا فأتمنى أن يكون لي ملء هذا البيت من أمثال سعيد بن عامر الجمحي، فأستعين بهم على أمور المسلمين"!.
الوقفة الرابعة: العمل المقبول في المعايير الإسلامية هو ما توفر فيه الإخلاص والصواب، والإخلاص ضرب من الأمانة، والصواب وهو هنا موافقة الشريعة ضرب من القوة، هذا بصورة عامة، لكن في أحيان كثيرة يكون ما يطلب من أحدهما أكثر مما يطلب من الآخر؛ فالثواب يتعلق بالإخلاص أكثر من تعلقه بالصواب، فالمجتهد المؤهل ينال أجراً إذا استفرغ وسعه وإن كان اجتهاده خاطئاً، لكن لا ثواب البتة على عمل لا يراد به وجه الله تعالى، أما النجاح والوصول إلى الأهداف المرسومة في الدنيا فإنه مرتبط بالصواب أكثر من ارتباطه بالإخلاص، فكم من مؤسسة يديرها أكفاء ليس عندهم شيء من الأمانة، ثم حققت أهدافها المادية كاملة وكم من مؤسسة أدارها أخيار غير مؤهلين، فأعلنت إفلاسها!..
وقد ذكر ابن خلدون أن للناس مذهبين في استخدام الأكفاء غير الثقات وتقديمهم على الثقات غير الأكفاء، واختار هو استخدام غير الثقات إذا كانوا مؤهلين؛ لأن بالإمكان وضع بعض التدابير التي تحد من سرقاتهم أما إذا كان المستخدم لا يحسن شيئاً فماذا نعمل به؟!5.
وقد ولى النبي -صلى الله عليه وسلم-أهل الكفاية الحربية مع أن في الصحابة من هم أتقى منهم وأورع؛ لأن القوة (البسالة وحسن التخطيط) تطلب في قيادة الجيش أكثر من الأمانة، مع أنهم كانوا بكل المقاييس من الأمناء الأخيار، وطلب بعض الصحابة ممن عرفوا بالزهادة والورع الولاية على بعض أمور المسلمين فحجبها عنهم لضعفهم6.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة قدم أنفعهما لتلك الولاية وأقلهما ضررا فيها، فتقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع وإن كان فيه فجور فيها على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أمينا كما سئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو وأحدهما قوي فاجر ولآخر صالح ضعيف مع أيهما يغزى؟ فقال: أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيغزى مع القوي الفاجر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)7 وروي (بأقوام لا خلاق لهم)8 فإذا لم يكن فاجراً كان أولى بإمارة الحرب ممن هو أصلح منه في الدين إذا لم يسد مسده.
ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعمل خالد بن الوليد على الحرب منذ أسلم، وقال: (إن خالداً سيف سله الله على المشركين)9 مع أنه أحيانا كان قد يعمل ما ينكره النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى إنه -مرة- رفع يديه إلى السماء وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد)10 لما أرسله إلى جذيمة فقتلهم وأخذ أموالهم بنوع شبهة ولم يكن يجوز ذلك وأنكره عليه بعض من معه من الصحابة حتى وداهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وضمن أموالهم، ومع هذا فما زال يقدمه في إمارة الحرب؛ لأنه كان أصلح في هذا الباب من غيره وفعل ما فعل بنوع تأويل. وكان أبو ذر -رضي الله عنه- أصلح منه في الأمانة والصدق ومع هذا فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي: لا تأمرن علي اثنين ولا تولين مال يتيم) رواه مسلم.
نهى أبا ذر عن الإمارة والولاية لأنه رآه ضعيفا مع أنه قد قال: (ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر).11
وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- مرة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل استعطافا لأقاربه الذين بعثه إليهم على من هم أفضل منه، وأمر أسامة بن زيد لأجل ثأر أبيه، ولذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه في العلم والإيمان".
"وإن كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد قُدِّم الأمين مثل حفظ الأموال ونحوها فأما استخراجها وحفظها فلابد فيه من قوة وأمانة فيولي عليها شاد قوي يستخرجها بقوته وكاتب أمين يحفظها بخبرته وأمانته وكذلك في إمارة الحرب إذا أمر الأمير بمشاورة أولي العلم والدين جمع بين المصلحتين، وهكذا في سائر الولايات إذا لم تتم المصلحة برجل واحد جمع بين عدد فلا بد من ترجيح الأصلح أو تعدد المولى إذا لم تقع الكفاية بواحد تام، ويقدم في ولاية القضاء الأعلم الأورع الأكفأ فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قدم – فيما قد يظهر حكمه ويخاف فيه الهوى – الأورع وفيما يدق حكمه ويخاف فيه الاشتباه: الأعلم، ففي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل عند حلول الشهوات)12"13.
الوقفة الخامسة من الوقفات التي نفقها مع قصة موسى: نحن في مراجعة أخطائنا نركز على جانب الأمانة، ونهمل جانب القوة، فإذا ما أخفقنا في عمل ما قلنا نحن بحاجة إلى تقوى وإخلاص، وإن اتباع الأهواء هو السبب في ذلك، ولا ريب أن الإخلاص مفتاح القبول والتوفيق وأن التقوى تستنزل الفرج، لكن ما هي المعايير التي تمكننا من قياس درجة التقوى ومقدار الإخلاص الموجود إذا ما أردنا التحقق منه، وكيف نستطيع التفريق بين عمل دفع إليه الهوى وآخر دفع إليه الاجتهاد؟! كل ذلك مما يستحيل قياسه، وبالتالي فإنه لا يمكن تحديده وما لا يمكن تحديده لا يصلح لأن يكون هدفاً.
وبإمكان الناس أن يقولوا: إلى ما شاء الله نحن أتباع هوى دون أن تستطيع أن ترد على أحد منهم رداً شافياً قاطعاً! على حين أن قياس القوة ممكن، وإدراك الخلل فيها يكون عادة ظاهراً يمكن وضع الإصبع عليه، فحين يأتي خطيب ليتولى إدارة جيش، أو التخطيط لمعركة، وحين يتولى رسم سياسات العمل رجلٌ لا يعرف الواقع، فلا يقرأ جريدة ولا يستمع إلى نشرة أخبار، ولا يحسن قراءة أي شيء يحيط به، فإن الخلل لا يحتاج إذ ذاك إلى شرح حيث تتولى شرحه النتائج!.
وحين يتصدى للاجتهاد في أمور خطيرة أشخاص لا يملكون الحد الأدنى من المعلومات حولها، وتترتب على اجتهاداتهم فواجع أكبر من أي جريمة ماذا تكون الحال؟!
لقد آن الأوان لوضع الأمور في نصابها، بتأهيل الشخص قبل إيجاد العمل الذي سيعمله، بدلاً أن يوجد المنصب ثم يبحث عمن يسد الفراغ ليس أكثر!.
الوقفة السادسة: عالمنا الإسلامي النموذج المثالي للقوى الكامنة، فكل ما عندنا (خام) الإنسان والطبيعة والموارد، ولعل لله في ذلك حكمة بالغة؛ إذ أن تشكيل الإنسان المسلم لو تم قبل بزوغ الصحوة المباركة لكان أكثر ضرراً من بقائه على حاله.
هذه القوى الكامنة ستظل ثغرات في حياتنا أياً كان موقعها في ظل التكالب العالمي على الصعيد الثقافي والاقتصادي، وهذه القوى الكامنة تحتاج إلى تفجير وإلى إخراج في شكل جديد يمنحها وزنها الحقيقي وإخراج القوة مهمة الدولة أولاً؛ فهي المسؤولة عن تفجير الطاقات كافة وتوجيهها، ومهمة صفوة الصفوة من صانعي المبادرات الخيّرة، الذين يمتد بصرهم دائماً إلى مستوى أعلى من المستوى الذي تعيش فيه أمتهم فيوجدون باستمرار الأفكار والأطر والأجواء والآليات التي تُفَعّل القوى الخامدة المجهولة للناس حتى حامليها.
واليهود هم من أساتذة العالم في (إخراج القوة) وتوظيفها واستغلالها وصحيح أن ديننا يحول بيننا وبين وسائل كثيرة استخدموها حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه، لكنني أعتقد أنه مازال في هذا العالم مكان فسيح للمسلم المبصر الأريب.
وقد بدأت الأمة في امتلاك القوة، وبدأ المارد الذي نام قروناً يصحو وهو الآن يتفقد أعضاءه وحواسه، ويحاول أن يتعلم المشي في (حارة) الكرة الأرضية، لكن بعضاً منا بدؤوا يخبطون يمنة ويسرة قبل أن يفتحوا عيونهم وقبل أن يعقلوا الأجواء التي يصحون فيها؛ ليغروا العدو بتوجيه الرصاصة القاتلة قبل أن يقفوا على أقدامهم!.
إن فهم الحياة المعاصرة شرط أساسي يجب توفيره عند كل أولئك الذين يريدون توجيهها والتأثير فيها، ولن يكون ذلك ممكناً ما لم نكن نحن من صانعي قراراتها وخياراتها..
الوقفة السابعة: الأمانة قيد على القوة، فهي التي تحدد مجالات استخدامها وكيفياته والقوة الآن في يد الآخرين على ما نعرف، والقيود الأخلاقية عندهم آخذة في الضعف يوماً بعد يوم؛ لأنها لا تعتمد على إطار مرجعي أعلى يمنحها الثبات ومن ثم فإن القوة ليست في طريقها إلى الانطلاق من أي ضابط أو حسيب، لكنها في طريقها إلى صنع قيودها بنفسها الصناعة التي تمكنها من مزيد من الانطلاق، وهي بذلك تجعل الآخرين يتوهمون أنها قيود؛ حتى لا يشعر أحد أن هناك فراغاً أخلاقياً يجب ملؤه ! وما النظام العالمي الجديد سوى الأحرف الأولى في أبجديات القيود الجديدة!. وهذا يوجب علينا المزيد من التفكير والتأمل فيما يجب عمله، ونحن مع ضعفنا قادرون في هذا المضمار على عمل الكثير الكثير إذا فهمنا لغة العصر، وأحسنا إدارة الصراع؛ إننا نملك القيود (الأمانة)، وهم يملكون القوة، فهل نسعى إلى امتلاك القوة المقيدة حتى يصطلي العالم بالنار دون أن يحترق؟14.
نسأل الله أن يجعلنا من عباده الأقوياء الأمناء، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 يراجع: تفسير القرآن العظيم(3/199) تفسير ابن كثير.
2 منهاج السنة النبوية(6/142). لابن تيمية. الناشر : مؤسسة قرطبة. الطبعة الأولى (1406). تحقيق : د. محمد رشاد سالم
3 انظر البحر المحيط (7/253).
4 مجموع الفتاوى (28/254).
5 انظر مقدمة ابن خلدون(2/279).
6 مجلة البيان، العدد (71) صــ(9).
7 رواه البخاري ومسلم.
8 رواه أحمد والنسائي والطبراني، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1866).
9 رواه عبد الرزاق الصنعاني في المصنف، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3207 ).
10 رواه البخاري.
11 رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (126).
12 لم نجده في كتب الحديث، وأكثر من أورده في كلامه ابن تيمية، وذكر ابن القيم في إغاثة اللهفان (2/167) أنه مرسل.
13 السياسة الشرعية، لابن تيمية ص(29).
14 مجلة البيان، العدد (71) صــ(9) مقالا: في إشراقة آية: {إن خير من استأجرت القوي الأمين} للدكتور/ عبدالكريم بكّار.