عبر وعظات من حادثة الإفك

عبر وعظات من حادثة الإفك

الحمد لله رب العالين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد:

إن من تأمل قصة الإفك التي افترى فيها المنافقون على عائشة – رضي الله عنها -، واتهموها بفعل الجرم ليرى أن فيها عبراً وعظات جمة ينبغي التوقف عندها، والاستفادة منها .. من ذلك:

أ‌- بيان نفاق ومكر عبدالله بن أُبي – عليه لعائن الله -، وما أراده من الفتنة.

ب‌- بيان أن الحبيب محمد  ما كان يعلم الغيب حتى يعلمه الله ، فكيف إذاً بغيره ممن يدعون علم الغيب والمكاشفة تغريراً بالمسلمين، وتضليلاً لهم لاستغلالهم.

ت‌- بيان ما تعرضت له أم المؤمنين – رضي الله عنها – من البلاء، وصبرها عليه حتى كشف الله ​​​​​​​ غمتها، وفرج كربها، وهكذا يتحقق قول الرسول : أشدكم بلاء الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل1.

ث‌- بيان براءة أم المؤمنين – رضي الله عنها -، ومن شك في براءتها بعد نزول القرآن بذلك فقد كفر. ج‌- بيان إقامة حد القذف على من قذف مؤمناً أو مؤمنة بفاحشة، إذ أقيم الحد على مسطح، وحسان، وحمنة، فطهرهم الله بذلك، ولم يقم الحد على ابن أُبي؛ لأنه كافر لا تطهره الحدود.

ح‌- حرمة قذف المحصنات المؤمنات، وكذا المحصنين المؤمنين، وأنه من كبائر الذنوب، وموجب للحد، وهو ثمانون جلدة.

خ‌- تجلي الكمال المحمدي في عدة مواقف من هذه الغزوة بما فيه حادثة الإفك، من ذلك: حلمه وأناته، صبره وكرمه، حسن تدبيره لأموره وأمور أصحابه، استشارته لأفراد آل بيته فيما يتعلق بهم دون غيرهم.2

د‌- من تأمَّل قول الصديقة – رضي الله عنها – وقد نزلت براءتها، فقال لها أبواها: قومي إلى رسول الله ، فقالت: “والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله” علم معرفتها، وقوة إيمانها، وتوليتها النعمة لربِّها، وإفراده بالحمد في ذلك المقام، وتجريدها التوحيد، وقوة جأشها، وإدلالَها ببراءة ساحتها، وأنها لم تفعل ما يُوجب قيامَها في مقام الراغب في الصُّلح، الطالب له، وثقتها بمحبة رسولِ اللهِ  لها؛ قالت ما قالت، إدلالاً للحبيب على حبيبه، ولاسيما في مثل هذا المقام الذي هو أحسنُ مقامات الإدلال، فوضعتهُ موضِعَه، ولِلِه ما كان أحبَّها إليه حين قالت: لا أحمد إلا الله، فإنه هو الذي أنزل براءتي، ولله ذلك الثبات والرزانةُ منها، وهو أحبُّ شيء إليها، ولا صبرَ لها عنه، وقد تنكر قلبُ حبيبها  لها شهراً، ثم صادفت الرِّضى منه والإقبال، فلم تبادر إلى القيام إليه، والسرور برضاه، وقربه مع شده محبتها له، وهذا غايةُ الثبات والقوة.

ذ‌- كان من حكمة حبس الوحي شهراً أن القضية مُحِّصَتْ وتمحَّضتْ، واستشرفت قلوبُ المؤمنين أعظم استشرافٍ إلى ما يُوحيه الله إلى رسوله  فيها، وتطلَّعت إلى ذلك غاية التطلُّع، فوافى الوحي أحوج ما كان إليه رسول الله ، وأهل بيته، والصديق وأهله، وأصحابه والمؤمنون، فورد عليهم ورودَ الغيث على الأرض أحوج ما كانت إليه، فوقع منهم أعظم موقع وألطفه، وسُرُّوا به أتم السرور، وحصل لهم به غايةُ الهناء، فلو أطلع الله رسوله  على حقيقة الحال من أول وهلة، وأنزل الوحي على الفور بذلك؛ لفاتت هذه الحكم، وأضعافها، بل أضعاف أضعافها.

ر‌- فإن قيل: فما بالُ رسول الله  توقَّف في أمرها، وسأل عنها، وبحث واستشار وهو أعرف بالله، وبمنزلته عنده، وبما يليق به، وهلّا قال: سبحانك هذا بهتان عظيم كما قاله فضلاء الصحابة ؟

فالجواب: أن هذا من تمام الحِكَمَ الباهرة التي جعل الله ​​​​​​​ هذه القصة سبباً لها، وامتحاناً وابتلاءً لرسوله ، ولجميع الأمة إلى يوم القيامة، ليرفع بهذه القصة أقواماً، ويضع بها آخرين، ويزيد الله الذين اهتدوا هدىً وإيماناً، ولا يزيد الظالمين إلا خساراً، واقتضى تمام الامتحان والابتلاء أن حبس عن رسول الله  الوحي شهراً في شأنها لا يوحى إليه في ذلك شيء، لتتم حكمتُهُ التي قدرها وقضاها، وتظهر على أكمل الوجوه، ويزداد المؤمنون الصادقون إيماناً وثباتاً على العدل والصدق، وحُسن الظن بالله ​​​​​​​ ورسوله ، وأهل بيته ، والصِّدَّيقينَ من عباده، ويزداد المنافقون إفكاً ونفاقاً، ويظهر لرسوله  وللمؤمنين سرائرهم، ولتتم العبوديةُ المرادة من الصديقة – رضي الله عنها – وأبويها ، وتتم نعمة الله عليهم، ولتشتد الفاقةُ والرغبةُ منها – رضي الله عنها – ومِن أبويها  إلى الافتقار إلى الله، والذل له، وحُسن الظن به، والرجاء له، ولينقطع رجاؤها من المخلوقين، وتيأس من حصول النصرة والفرج على يد أحد من الخلق، ولهذا وفّت هذا المقام حقه لما قال لها أبواها: قومي إليه، وقد أنزل الله عليه براءتها، فقالت: والله لا أقوم ُ إليه، ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي.3

وهناك فوائد أخرى لكن نكتفي بما ذكر .. والحمد لله رب العالمين.


1 – أخرجه الدارمي والنسائي في الكبرى وابن ماجه وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم كلهم من طريق عاصم بن بهدلة عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه، وهو السلسلة الصـحـيـحة 143.

2 راجع” هذا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يا محب” ص 336 – 337.

3– راجع” زاد المعاد” 3/ 256 – 264.