النفس اللوّامة

النفس اللّوامة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف وأكرم مبعوث إلى العالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

إن من نعم الله ​​​​​​​ على العبد أن يكون له واعظ من نفسه يزجره إذا قصر في طاعة الله ​​​​​​​ أو تجاوز حده بمعصيته، إن النفس اللوامة التي تلوم صاحبها على تقصيره لهي من نعم الله – تبارك وتعالى – على العبد.

النفس اللوامة المتيقظة، التقية الخائفة، المتوجسة التي تحاسب نفسها، وتتلفت حولها، وتتبين حقيقة هواها، وتحذر خداع ذاتها؛ لهي النفس الكريمة على الله حتى ليذكرها مع يوم القيامة لا أقسم بيوم القيامة۝ ولا أقسم بالنفس اللومة1 ثم هي الصورة المقابلة للنفس الفاجرة2 قال ابن كثير: “وأما النفس اللوامة فقال قرة بن خالد عن الحسن البصري في هذه الآية: إن المؤمن والله ما نراه إلا يلوم نفسه، ما أردت بكلمتي، ما أردت بأكلتي، ما أردت بحديث نفسي، وإن الفاجر يمضي قدماً قدماً ما يعاتب نفسه.

وقال جويبر: بلغنا عن الحسن أنه قال في قوله تعالى: ولا أقسم بالنفس اللوامة قال: ليس أحد من أهل السماوات والأرضين إلا يلوم نفسه يوم القيامة، وعن عكرمة قال: يلوم على الخير والشر: لو فعلت كذا وكذا. وقال ابن عباس: هي النفس اللؤوم، وقال أيضاً: اللوامة المذمومة، وقال قتادة: اللوامة: الفاجرة، قال ابن كثير: قال ابن جرير: وكل هذه الأقوال متقاربة بالمعنى، والأشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر، وتندم على ما فات.3

وقال القرطبي: ومعنى النفس اللوامة: أي بنفس المؤمن الذي لا تراه إلا يلوم نفسه يقول: ما أردت بكذا؟ فلا تراه إلا وهو يعاتب نفسه، وقال مقاتل: هي نفس الكافر يلوم نفسه، ويتحسر في الآخرة على ما فرط في جنب الله، وقال الفراء: ليس من نفس محسنة أو مسيئة إلا وهي تلوم نفسها؛ فالمحسن يلوم نفسه أن لو كان ازداد إحساناً، والمسيء يلوم نفسه ألا يكون ارعوى عن إساءته”.4

وقال الثعالبي في تفسيره: وكل نفس متوسطة ليست بالمطمئنة ولا بالأمارة بالسوء فإنها لوامة في الطرفين، مرة تلوم على ترك الطاعة، ومرة تلوم على فوات ما تشتهي، فإذا اطمأنت خلصت وصفت.5

أيها الأحبة: إن النفس اللوامة: هي التي تنورت بنور القلب، قدر ما تنبهت به عن سِنَة الغفلة، وكلما صدرت عنها سيئة بحكم جبلتها أخذت تلوم نفسها.6

وقال الغزالي وهو يصف ما ينبغي أن تكون عليه النفس بعد أداء العمل: محاسبتها – أي لومها – على طاعة قصرت فيها من حق الله ​​​​​​​ فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي، وحق الله – تعالى – في الطاعة ستة أمور وهي: الإخلاص في العمل، والنصيحة لله فيه، ومتابعة الرسول  فيه، وحصول المراقبة فيه، وشهود منَّة الله عليه، وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله، فيحاسب نفسه ويلومها: هل وفى هذه المقامات حقها، وهل أتى بها في هذه الطاعة، وكذلك محاسبة نفسه ولومها: على كل عمل كان تركه خيراً من فعله.

وكذلك عليه أن يحاسب نفسه ويلومها: على أمر مباح، أو معتاد: لِمَ فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة؟ فيكون رابحاً، أو أراد به الدنيا وعاجلها؟ فيخسر ذلك الربح، ويفوته الظفر به.7

وهذا نموذج رائع جداً للوم النفس وعتابها من صحابة رسول الله  حنظلة الأسيدي  وكان من كتاب رسول الله  قال: “لقيني أبوبكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله  يذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله  عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً، قال أبوبكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا؛ فانطلقت أنا وأبوبكر حتى دخلنا على رسول الله  قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله : وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيراً، فقال رسول الله : والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر؛ لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات8 فحنظله حاسب نفسه ولامها حتى قال عن نفسه: (نافق حنظلة).

والنفس قد تكون لوامة، أو أمّارة، أو مطمئنة؛ كما ذكر ذلك ابن القيم – رحمه الله – حيث قال: “والنفس قد تكون تارة أمارة، وتارة لوامة، وتارة مطمئنة، بل في اليوم الواحد، والساعة الواحدة؛ يحصل منها هذا وهذا وهذا، والحكم للغالب عليها من أحوالها، وكونها مطمئنة وصف مدح لها، وكونها أمارة بالسوء وصف ذم لها، وكونها لوامة ينقسم إلى المدح والذم، بحسب ما تلوم عليه.

وكان الأحنف بن قيس يجيء إلى المصباح فيضع أصبعه فيه، ثم يقول: حِس يا حنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟، وقال مالك بن دينار: رحم الله عبداً قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله ​​​​​​​ فكان لها قائداً، وقال ميمون بن مهران: لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوان؛ إن لم تحاسبه ذهب بمالك.9

اللهم اجعلنا ممن يحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا، ويزنون أعمالهم قبل أن توزن عليهم، واجعلنا من المتقين المصطفين الأخيار.

والحمد لله رب العالمين


1 سورة القيامة (1-2)

2 في ظلال القرآن (6 /3768).

3 تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4 /473)

4 الجامع لأحكام القرآن (19 /91-93).

5 تفسير الثعالبي (5 /519).

6 انظر التعريفات للجرجاني ص263.

7 إحياء علوم الدين للغزالي (4 /394-395).

8 رواه مسلم برقم (2750).

9 انظر إغاثة اللهفان (1 /129-132).