قلوب هاجرت إلى الله

 

 

قلوب هاجرت إلى الله

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:

الخطأ أمرٌ جُبِلَ عليه ابن آدم، والوقوع في الذنب متوقع منه، و لما خلق الله – عزوجل – عبيده على هذه الطبيعة؛ فتح لهم آفاق لكي يعودوا إليه، ويتوبوا بين يديه، فهذا أبو البشر آدم – عليه السلام – وهو نبي من أنبياء الله – تعالى – يقع في الذنب، لكنه سرعان ما يُقبل على مولاه، ويحط رحاله على باب الله، مهاجراً بقلبه إلى الله، تاركاً كل ما يغضب الله، متقرباً إليه بما يحبه ويرضاه {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}1.

إنها قصة توبة، ولمن؟ لنبي من أنبياء الله – عز وجل -، يذكرها الله في كتابه لتتجلى حقيقة البشر؛ كونهم أصحاب خطأ وتقصير، لكن آدم – عليه السلام – لم يلبث إلا شد رحال قلبه مهاجراً به إلى الله – تعالى -، فتاب عليه الله؛ إنه هو التواب الرحيم {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}2.

وهذا النبي  وهو الذي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تقدم؛ لا يدع الهجرة إلى الله بقلبه، بل يسارع لها، ويكررها في اليوم عدة مرات، فعن الأغر – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله  : ((يا أيها الناس توبوا إلى الله؛ فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة))3، وعلى هذا ربى النبي   أصحابه فكانوا سريعي الأوبة، كثيري التوبة، وقصة الثلاثة الذين خُلِّفوا في غزوة تبوك أكبر دليل على ذلك، نعم قد يقعون في الخطأ لكنهم لا يصرون عليه {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}4، وهؤلاء النفر من الصحابة الكرام الذين تخلفوا عن غزوة تبوك كانوا قد شعروا بالخطأ والتقصير، فما لبثوا إلا أن أعلنوا النفير، وبدأت قلوبهم بالمسير إلى الله القدير، فقبل الله توبتهم، وسهَّل لكم حط رحالهم، فقال فيهم: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}5، ويتتابع الصحابة الكرام – رضي الله عنهم – كلما حصلت من أحدهم كبوة، أو وقع في هفوة؛ سارع لطلب المغفرة من الله – تعالى – ممتثلين قوله – سبحانه -: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}6، وعاملين بما أمر به الرسول الأمين   من الهجرة إلى رب العالمين، بترك ما نهى عنه وحذر المؤمنين فعن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – عن النبي   قال: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه))7.

وهذه الغامدية لم يدر بخبرها أحد لكنها ما استطاعت أن تبقي قلبها في أرض الذنب،وعلى بساط المعصية، بل سارعت بالهجرة إلى الله – تعالى -، وبادرت إلى النبي   تعترف بين يديه بالزنا، لا إله إلا الله أية إرادةٍ هذه، وأي قلب هذا، يتحمل أعباء الرحلة إلى الله ومشاقها، ولا يثنيه ذلك عن هجرته، ذهبت بقلبها إلى الله، وهي تعلم علم يقين أنها قد تفقد نفسها، وينتهي بذلك جسدها، وتترك ملذاتهها، إن الحكم على فعلتها هو الإعدام من الحياة، فكرت في كل ذلك، فما وجدت ألذ ولا أحلى من الهجرة إلى الله.

إليك وإلا لا تشد الركائب    ومنك وإلا فالمؤمل خائب
 وفيـك وإلا فالغرام مضيع وعنك وإلا فالمحدث كاذب

 

جاء في صحيح مسلم “أن الغامدية – رضي الله عنها – جاءت فقالت: “يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني”، وأنه ردها، فلما كان الغد قالت: يا رسول الله لم تردني؛ لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً، فوالله إني لحبلى، قال: ((إما لا، فاذهبي حتى تلدي))، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: ((اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه))، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز فقالت: هذا يا نبي الله قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها، فتنضح الدم على وجه خالد فسبها،فسمع نبي الله  سبه إياها فقال: ((مهلاً يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبةً لو تابها صاحب مكس لغفر له))،ثم أمر بها فصلى عليها، ودفنت”8.

“وهذا رجل من بني إسرائيل يمنع الله القطر على قومه بسببه، فيستسقي موسى – عليه السلام – ربه فلا يسقون لوجود العاصي بينهم، فيعلن موسى – عليه السلام – ذلك في القوم، ويأمر العاصي بالخروج، فيستحي أن يخرج من بين الجموع، ويخشى أن يُفضَح، فلم يخرج بجسده؛ بل بقى مكانه، وهاجر بقلبه إلى الله – تعالى -، فقال: “إلهي وسيدي عصيتك أربعين سنة وأمهلتني. وقد أتيتك طائعاً فاقبلني”، فلم يستتم الكلام حتى ارتفعت سحابة بيضاء فأمطرت كأفواه القرب، فقال: موسى إلهي وسيدي بماذا سقيتنا وماخرج من بين أظهرنا أحدٌ؟ فقال: “يا موسى سقيتكم بالذي به منعتكم”، فقال موسى: “إلهي أرني هذا العبد الطائع”، فقال: “يا موسى إني لم أفضحه وهو يعصيني؛ أأفضحه وهو يطيعني؟”9.

إخواني: لا بد أن نكون في هجرةٍ دائمةٍ إلى الله – تعالى -، ندع فيها الذنوب، ونهجر فيها المعاصي، ونقلع عن السيئات، فاللهم تقبل توباتنا، واقبلنا عندك يا رب العالمين، واجعلنا من عبادك التوابين، واغفر لنا يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.


1 سورة البقرة (35-37).

2 سورة التوبة (104).

3 رواه مسلم برقم (4871).

4 سورة آل عمران (135).

5 سورة التوبة (118).

6 سورة آل عمران (133).

7 البخاري برقم (9).

8 مسلم برقم (3208).

9 التوابين صـ(81-82).