ما هذه الدنيا بدار قرار

 

 

 

 

ما هذه الدنيا بدار قرار

الحمد لله رب العالمين، مدبر الخلق بأمره وحكمته، ومصرف الكون بقهره وإرادته، لا تتخلف ذرة في ملكوته عن أمره، لا يتقدم شيء أراد أن يؤخره، ولا يتأخر شيء أراد أن يقدمه، يقلب القلوب والأبصار، وكل شيء عنده بمقدار، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

يقول الحق سبحانه: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}1 “قال مسلمة بن محارب: قال عامر بن عبد قيس: الدنيا والدة للموت، ناقضة للمُبرَم، مرتجعة للعطية، وكل من فيها يجري إلى ما لا يدري، وكل مستقِر فيها غير راض بها، وذلك شهيد بأنها ليست بدار قرار”2

صغير يشتهي الكبرا وشيخ ود لو صغرا
ورب المال في تعب وفي تعب من افتقرا
وخال يبتغي عملاً وذو عمل به ضجرا
ويشقى المرء منهزماً ولا يرتاح منتصراً

“وقال: بكر بن عبد الله المزني: الدنيا ما مضى منها فحلم، وما بقي منها فأماني”3، وما أحسن وصف ذلك التهامي لتقلب الدنيا عندما ابتلي بموت ابنه وهو شاب صغير فقال:

حكم المنية في البرية جار ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يرى الإنســان فيها مخــبرا حتى يُرى خبراً من الأخبار
طبعت على كدر وأنت تـريدهـا   صفواً من الأقذاء والأكدار
والنفس إن رضيت بذلك أو أبـت منقـــادة بأزمَّة الأقدار
فاقضـــوا مآربكم عِجالاً إنمـا أعماركم سفر من الأسفار
وتراكضــوا خيل الشباب وبادروا أن تُستـَرَدَّ فإنهن عَواري

وتأمل قصة هذا الرجل الذي كان صاحب مال وثروة، وصحة وعافية وولد، ثم كيف سلبها الله منه في لحظة واحدة “قال سليمان بن أبي شيخ: حدثني نابل بن نجيح قال: كان باليمامة رجلان ابنا عم، فكثر مالهما، فوقع بينهما ما يقع بين الناس، فرحل أحدهما عن صاحبه قال: فإني ليلة قد ضجرت برغاء الإبل والغنم والكثرة، إذ أخذتُ بيد صبي لي وعلوت في الجبل، فأنا كذلك إذ أقبل السيل فجعل مالي يمر بين يدي ولا أملك منه شيئاً!! حتى رأيت ناقة لي قد علق خطامها بشجرة، فقلت: لو نزلت إلى هذه فأخذتها لعلي أنجو عليها أنا وبني هذا، فنزلت فأخذت الخطام وجذبها السيل فرجع علي غصن الشجرة فذهب ماء إحدى عيني، وأفلت الخطام من يدي فذهبت الناقة! ورجعتُ إلى الصبي فوجدته قد أكله الذئب، فأصبحت لا أملك شيئاً، فقلت: لو ذهبتُ إلى ابن عمي لعله يعطيني شيئاً فمضيت إليه فقال لي: قد بلغني ما أصابك، والله ما أحببت أنه قد أخطأك، فكان ذلك أشد مما أصابني، فقلت أمضي إلى الشام فأطلب، فلما دخلت إلى دمشق إذا الناس يتحدثون أن عبد الملك بن مروان أصيب بابن له، فاشتد حزنه عليه، فأتيت الحاجب فقلت: إني أُحدث أمير المؤمنين بحديث يعزيه عن مصيبته هذه، فقال أذكر ذلك له، وذكره فقال: أدخله، فأدخلني فحدثته بمصيبتي فقال: “قد عزيتني بمصيبتك عن مصيبتي”، وأمر لي بمالـ فعدت وتراجعت حالي”4.

أيها الأخ الحبيب: سئل الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله -: متى الراحة يا أبا عبد الله؟

قال: عند أول قدم نضعها في الجنة.

وصدق الله العظيم القائل في محكم التنزيل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}5، فلا تغتر بالدنيا فهي دول، ولا بالأيام فهن قُلّب:

فيوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نُسَر
مرت سنون بالسرور وبالهنا  فكأنها من قصرها أيام
ثم اثنت أيام بؤس بعدها فكأنها من طولها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها  فكأنها وكأنهم أحلام   

ولو بقيت الدنيا لمن قبلك لما وصلت إليك، ولو كان الخلود في الدنيا خير لخُلد الأنبياء والمرسلون، فبادر بعمل ينفعك في معادك، وعش في هذه الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل

والله أعلم


1 سورة غافر (39).

2 البيان والتبيين للجاحظ (1/457).

3 التذكرة الحمدونية (1/46).

4 الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان لعبد الله بن محمد أبو بكر القرشي البغدادي (1/53).

5 سورة البلد (4).