لمن هجر القرآن

 

 

لمن هجر القرآن

الحمد لله حمداً يوافي نعمه، والشكر له شكراً ندفع به نقمه، والصلاة والسلام على هادي الأمة الأبرّ، صاحب الجبين الأغرّ، براق الثنايا، كريم المخبرّ، أما بعد:

فإن هذه الأمة قد حباها ربها بكتاب لا أقدس منه {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}1، وشرّفها بنور لا أبهى من نوره {وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا}2.

إنه القرآن العظيم، ميثاق النبوة الخاتمة، والمعجزة الخالدة المستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا يخلق على كثرة الترديد، ويزيد تاليه بهاءً إذا ما زينه بالتجويد، رباط بين السماء والأرض، وعهد بين الله وبين عباده، ما تركه من جبار إلا قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}3، ولذا جاء الحث للأمة على تلاوته وترتيله في أكثر من موضع قال سبحانه:{وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلًا}4،وجُعل تدبره غاية تنزيله فقال سبحانه: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}5، ورتب الله سبحانه على قراءته وتلاوته وتدبره الأجور العظيمة، والمقامات السامية الكريمة.

ومع هذا كله تجد فئاماً عريضة من الناس من أمة الإسلام والله المستعان قد جعلت القرآن خلفها ظهرياً، هجرت تلاوته، وتحاكمت إلى غير هديه، واستبدلت بسماع آي القرآن مزمار الشيطان.

صور مزرية ربما خلقتها الحياة المادية بمغرياتها الخادعة، وهيلمانها البراق، فافتتن الناس بها، وجعلوها كعبتهم، ومنتهى أملهم حتى ألهتهم عن مصدر عزهم، ومكمن نهضتهم كتاب الله ​​​​​​​ ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

احذر طريقهم:

فهؤلاء المعرضون عنه قد شكاهم رسول  الله   إلى ربه ​​​​​​​ : {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القرآن مَهْجُورًا}6 أي: قد أعرضوا عنه، وهجروه وتركوه، مع أن الواجب عليهم الانقياد لحكمه، والإقبال على أحكامه، والمشي خلفه، قال الله مسلياً لرسوله، ومخبراً أن هؤلاء الخلق لهم سلف صنعوا كصنيعهم فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ}7 أي: من الذين لا يصلحون للخير، ولا يزكون عليه؛ يعارضونهم، ويردون عليهم،ويجادلونهم بالباطل.8

ولقد توعّد الله – سبحانه – الذين يعرضون عنه، ويتجاهلون قرآنه فقال: {وقد آتيناك من لدنا ذكراً * من أعرض عنه} أي أعرض عن هذا الذكر الذي هو القرآن العظيم، أي صد وأدبر عنه، ولم يعمل بما فيه من الحلال والحرام، والآداب، والمكارم، ولم يعتقد ما فيه من العقائد، ويعتبر بما فيه من القصص والأمثال ونحو ذلك {فإنه يحمل يوم القيامة وزراً}  قال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة: “يريد بالوزر العقوبة الثقيلة الباهظة، سماها وزراً تشبيهاً في ثقلها على المعاقب، وصعوبة احتمالها بالحمل الذي يفدح الحامل، وينقض ظهره، ويلقي عليه بهره، أو لأنها جزاء الوزر وهوالإثم”9، ورغم هذا كله فإنهم {خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملاً}10 فيرسم – سبحانه – للمعرضين عن هذا الذكر – ويسميهم المجرمين – مشهداً في يوم القيامة، فهم يحملون أثقالهم كما يحمل المسافر أحماله، ولكن بئس الحمل الذي حملوه من الأوزار في ذلك اليوم العصيب، ذلك اليوم الذي يُنفخ فيه في الصور، ويُساق المجرمون إلى المحشَر زُرق الألوان، يرهق وجوهَهم الذلّ، يتهامسون بينهم من الرعب،ويقول بعضهم لبعض: ما لبثتم في الدنيا إلا عشراً”111.

وللهجر صوره

أيها المبارك: قد يجول في بالك أن الهاجر للقرآن محصور في ذلك الشخص الذي لم يقرأ آياته، ولم يترنم بكلماته، ولم يتصفح صفحاته، نعم هذا ممن يشمله الهجر، ولكن تأكد أن هناك أنواع من الهجر التي إن لم نتوخها، ونحذر مغبتها؛ فإنه يخشى على الواحد منا أن يشمله ما توعد الله به هذا الصنف من أليم عقابه، وشديد عذابه، غفل عنها كثير من فئام المسلمين – نسأل الله لنا ولهم العافية والسلامة -.

واقرأ ماذا سطرته أنامل طبيب القلوب “ابن القيم” عن هذه الأنواع لتحذر وتنتبه من طريقها، فإنها الزاجة بك في دركات الشقاوة؛ يقول ابن القيم في كتابه القيم “الفوائد”:

“هجر القرآن أنواع:

أحدها: هجر سماعه، والإيمان به، والإصغاء إليه.

والثاني: هجر العمل به، والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به.

والثالث: هجر تحكيمه، والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم.

والرابع: هجر تدبره، وتفهمه، ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.

والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به، وكل هذا داخل في قوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القرآن مَهْجُورًا}”12، ثم يعقب – رحمه الله فيقول: “وإن كان بعض الهجر أهون من بعض”13.

إطلالة سريعة مع صور هجره

فيا من هجرت سماعه وتلاوته – لو استقرأت الواقع لوجدت أنه لا يوجد على وجه البسيطة كتاب يحرم هجره، ويجب تعاهده وتلاوته؛ إلا القرآن الكريم، فإن هذه من خصائصه التي لا يشاركه فيها أي كتاب، وتأمل كيف أن الله أثنى على الذين يتعاهدون كتاب ربهم بالتلاوة فقال: {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}14، ألا يجدر بي وبك أن نكون منهم، يقول أهل العلم:”يكره للرجل أن يمر عليه أربعون يوماً لا يقرأ فيها القرآن”.ويامن هجرت العمل به، والوقوف عند حلاله وحرامه: أتدري أن القرآن إنما نزل لتحليل حلاله، وتحريم حرامه، والوقوف عند حدوده يقول سبحانه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}15.

ويا من  ‎‎هجرت تحكيمه والتحاكم إليه: هذا كتاب ربك بين يديك ما أنزله إلا ليبقى الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولقد نهى سبحانه عن التحكيم أو التحاكم إلى غير هدي القرآن،فالقرآن الكريم هو دستور المسلمين، وهو الحكم فيما اختلفوا فيه من أمور دينهم ودنياهم، فلا يجوز هجره لابتغاء الحكم في غيره أخبر عن ذلك سبحانه بقوله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}16. وإليك يا من هجرت تدبره وتفهمه: فإن في تدبر القرآن الكريم، وتعقل معانيه؛ ما يتصدع له قلوب الأخيار، وترق لخطبه نفوس الأطهار، ولو عاش الناس معه بقلوب واعية، ونفوس وجلة مستشعرة عظم ما تقرأ؛ لقادهم إلى رضوان ربهم يقول سبحانه:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}17، وقال أيضاً معاتباً: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}18.فتأمل أيا رعاك الله معانيه تنل مغانيه، وتدبر آياته ترقي سلم درجاته.

وأنت يا من هجرت الاستشفاء به، والتداوي به في أمراض القلوب والأبدان: إليك دواء لن تجد له مثيلاً ولو طفت مستشفيات الدنيا، مستشفىً ربانياً ممن بيده النفع والضر {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}19، فإذا نزل بك ضر، أو حل بك سقم، أو اعتللت فاطلب العلاج ممن قال في أصدق كتابه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}20، وقال:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء}21.

تنبه لهذا الهجر

وهناك لون آخر من الهجر كثر وشاع في عصرنا يتمثل في وضع المصحف في أي مكان للتبرك بوجوده فحسب،كأن يوضع على رف في المنزل، أو في مقدمة السيارة أو مؤخرتها؛ حتى يعلوه الغبار بما يشهد بأنه مهجور, وهذا سوء أدب مع كتاب الله – تعالى -، يقول ابن الجوزي – رحمه الله -: “من كان عنده مصحف ينبغي له أن يقرأ فيه كل يوم آيات يسيرة لئلا يكون مهجوراً”.

أدرك نفسك فهذه رسالة ما سطرتها إلا يوم أن رجوت أن تحيي فيك ما قد ما مات، وتوقظ منك ما قد بات، وترهب بك ما قد فات، فافتح لها قلبك، ووطنها طريقك ودربك؛ تحظى بنور ربك، وتأمن من عواقب هجره لمن تنكب أمره، وتنصل عن هديه يقول سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}22، معيشة ضنكاً في الدنيا، وعمى في الآخرة – والعياذ بالله – يقول سبحانه:{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ}23.

نسأل الله أن يجيرنا وإياك وسائر المسلمين من النار، وما قرب إليها من قول وعمل، ونية واعتقاد، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم وبارك على النبي والنذير البشير.


1 سورة فصلت (42).

2 سورة الشورى (52).

3 سورة البقرة (2).

4 سورة المزمل (4).

5 سورة ص (29).

6 سورة الفرقان (30).

7  سورة الفرقان (31).

8 تفسير السعدي (582).

9 أضواء البيان (4/95).

10 سورة طه (99-100).

11 تفسير القطان (2/420).

12 سورة الفرقان (30).

13 الفوائد لابن القيم (1/82).

14 سورة آل عمران (113).

15 سورة النور ‏(51).

16 سورة آل عمران (85).

17 سورة ص (29).

18 سورة محمد (24).

19 سورة يس (82).

20 سورة الإسراء (82).

21 سورة فصلت (82).

22 سورة طه (124).

23 سورة البقرة (85).