صور من إيذاء المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم

صور من إيذاء المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم

 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، الحمد لله معز المؤمنين، وجامع الناس ليوم الدين، أرسل الرسل ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، أشهد أنه لا إله معه، ولا رب سواه، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الكرام، ومن استن بسنته إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن من رحمة الله بأمة الإسلام أن أرسل إليهم رسولاً من أنفسهم عزيز عليهم بالمؤمنين رؤوف رحيم، جاء ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فأخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولقد كان يُلقب بالصادق الأمين، وكانوا يحبونه ويعظمونه؛ لكنه عندما أظهر دعوة الإسلام، وإفراد الله تبارك وتعالى بالعبادة؛ أُوذي أشد الأذى، فقال مناوؤه عنه: ساحر، مجنون، كاهن، يعلمه بشر، وقاموا بتعذيب أصحابه أشد العذاب، فكانوا يضعون صخرةً عظيمة على صدر بلال بن رباح رضي الله عنه وأرضاه في رمضاء مكة، وهو صابر محتسب يردد أحد أحد، فعن نعيم بن أبي هند قال: كان بلالاً لأيام أبي جهل، وأن أبا جهل قال: لبلال وأنت أيضاً تقول فيمن يقول، قال: فأخذه فبطحه على وجهه، وسلقه في الشمس، وعمد إلى رحى فوضعها عليه، فجعل يقول: أحد أحد، قال: فبعث أبو بكر رضي الله عنه رجلاً كان له صديقاً قال: اذهب فاشتر لي بلالا؛ وكان أمية بن خلف الجمحي ممن يعذب بلالاً، ويوالي عليه العذاب والمكروه، فكان من قدر الله تعالى أن قتله بلال يوم بدر على حسب ما أتى من ذلك في السير، فقال فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه أبياتاً:

هنيئاً زادك الرحمن خيراً          فقد أدركت ثأرك يا بلال1

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "كان أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم إنسان إلا وقد أتاهم على ما أرادوا إلا بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد"2؛ وحوصر صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الشعب ثلاث سنوات قال ابن عبد البر رحمه الله: "فلما دعا قومه إلى دين الله نابذوه، فأجاره عمه أبو طالب، ومنع منه قريشاً؛ لأنهم أرادوا قتله لما دعاهم إليه من ترك ما كانوا عليه وآباؤهم، ومفارقته لهم في دينه، وتسفيه أحلامهم في عبادة أصنام لا تبصر، ولا تسمع، ولا تضر، ولا تنفع، فلم يزل في جوار عمه أبي طالب إلى أن توفي أبو طالب وذلك في النصف من شوال في السنة الثامنة، وقيل العاشرة من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وحصرت قريش النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته بني هاشم ومعهم بنو المطلب في الشعب بعد المبعث بست سنين، فمكثوا في ذلك الحصار ثلاث سنين، وخرجوا منه أول سنة خمسين من عام الفيل"3.

وخرج من مكة إلى الطائف، وهاجر أصحابه إلى الحبشة مرتين، ثم بعد ذلك خرج فاراً بدينه مهاجراً إلى المدينة المنورة، ثم بعد ذلك قاتله قومه في غزوة بدر، وغزوة أحد، والأحزاب وغيرها من الغزوات، فقتلوا الكثير من أصحابه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم.

وسننقل فيما يلي بعض المواقف التي يتبين فيها شدة ما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم من الأذى في سبيل الله تبارك وتعالى:

§                        أبو لهب وزوجته يؤذيان النبي صلى الله عليه وسلم  :

عن ابن عباس  رضي الله عنهما قال: لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}(الشعراء:214) صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي؛ لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال: ((أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي)) قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد))، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}(المسد:1-2)" رواه البخاري برقم (4492)؛ وذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره أن هبار بن الأسود قال: "كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزا إلى الشام، فتجهزت معهما، فقال ابنه عتبة: والله لأنطلقن إلى محمد ولأوذينه في ربه – سبحانه -، فانطلق حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، هو يكفر بالذي دنى فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم ابعث إليه كلباً من كلابك))، ثم انصرف عنه فرجع إلى أبيه فقال: يا بني ما قلت له؟ فذكر له ما قال له، قال: فما قال لك؟ قال: قال: ((اللهم سلِّط عليه كلباً من كلابك)) قال: يا بني والله ما آمنُ عليك دُعاءه، فسرنا حتى نزلنا الشراة (وهي مأْسَدَة)، ونزلنا إلى صَوْمَعة راهب، فقال الراهب: يا معشر العرب ما أنزلكم هذه البلاد، فإنها تسرح الأسْدُ فيها كما تسرح الغنم؟ فقال لنا أبو لهب: إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي، وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوةً والله ما آمنها عليه، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة، وافرشوا لابني عليها، ثم افرشوا حولها، ففعلنا؛ فجاء الأسد فَشَمّ وجوهنا، فلما لم يجد ما يريد تَقَبّض، فوثب، فإذا هو فوق المتاع، فشم وجهه ثم هزمه هَزْمة فَفَضخ رأسه، فقال أبو لهب: قد عرفت أنه لا ينفلت عن دعوة محمد"4 أ. هـ.

وعن ربيعة بن عباد الديلي وكان جاهليا أسلم فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بصر عيني بسوق ذي المجاز يقول: ((أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا))، ويدخل في فجاجها والناس متقصفون عليه فما رأيت أحداً يقول شيئاً، وهو لا يسكت يقول: ((أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)) إلا أن وراءه رجلاً أحول وضيء الوجه، ذا غديرتين، يقول: أنه صابئ كاذب، فقلت: من هذا؟ قالوا: محمد بن عبد الله وهو يذكر النبوة، قلت: من هذا الذي يكذبه؟ قالوا: عمه أبو لهب، قلت: إنك كنت يومئذ صغيراً قال: لا والله إني يومئذ لأعقل"5؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}(المسد:1) جاءت امرأة أبي لهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله إنها امرأة بذيئة، وأخاف أن تؤذيك فلو قمت، قال: ((إنها لن تراني)) فجاءت فقالت: يا أبا بكر إن صاحبك هجاني، قال: لا وما يقول الشعر، قالت: أنت عندي مصدق وانصرفت، فقلت: يا رسول الله لم ترك؟ قال: ((لا، لم يزل ملك يسترني عنها بجناحه))6 وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "قال ابن إسحاق: وكان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته: أبو لهب، والحكم بن أبى العاص بن أمية، وعقبة بن أبى معيط، وعدي بن الحمراء، وابن الأصداء الهذلي، وكانوا جيرانه لم يُسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبى العاص، وكان أحدهم فيما ذُكر لي يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلى، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجراً يستتر به منهم إذا صلى، فكان إذا طرحوا شيئاً من ذلك يحمله على عود ثم يقف به على بابه، ثم يقول: يا بني عبد مناف أي جوار هذا؟ ثم يلقيه في الطريق"، ثم قال ابن كثير رحمه الله: "وعندي أن غالب ما روى مما تقدم من طرحهم سلا الجزور بين كتفيه وهو يصلى، كما رواه ابن مسعود، وفيه أن فاطمة جاءت فطرحته عنه، وأقبلت عليهم فشتمتهم، ثم لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على سبعة منهم، وكذلك ما أخبر به عبد الله بن عمرو بن العاص من خنقهم له عليه السلام خنقاً شديداً"7.

§      إيذاء النضر بن الحارث للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:

قال ابن هشام رحمه الله في السيرة: النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، كان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً فدعا فيه إلى الله تعالى، وتلا فيها القرآن، وحذر فيه قريشاً ما أصاب الأمم الخالية؛ خَلَفَهُ في مجلسه إذا قام فحدثهم عن رستم السنديد، وعن أسفنديار، وملوك فارس، ثم يقول: والله ما محمد بأحسن حديثاً مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبتها، فأنزل الله فيه: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا}(الفرقان:5-6)، ونزل فيه: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}(القلم:15)، ونزل فيه: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}(الجاثية:7-8) قال ابن هشام: الأفاك الكذاب وفي كتاب الله تعالى: {أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}(الصافات:151-152)، وقال رؤبة بن العجاج: ما لامرئ أفك قولاً إفكاً؛ وهذا البيت في أرجوزة له.

قال ابن إسحاق: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فيما بلغني مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم في المجلس، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله حتى أفحمه، تلا عليه وعليهم: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ}(الأنبياء:98-100) قال ابن هشام: حصب جهنم كل ما أوقدت به8.

§       أبو جهل بن هشام يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم:

ذكر ابن كثير رحمه الله أن أبا جهل بن هشام قبَّحه الله قال للنبي صلى الله عليه وسلم: " لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي تعبد، ونزل قول الله فيه: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}(الأنعام:108) الآية"9؛ وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: كنت يوماً في المسجد فأقبل أبو جهل فقال: إن لله عليَّ إن رأيت محمداً ساجداً أن أطأ على رقبته، فخرجت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلت عليه، فأخبرته بقول أبي جهل، فخرج غضباناً حتى جاء المسجد فعجل قبل أن يدخل من الباب فاقتحم الحائط، فقلت: هذا يوم الشر، فاتزرت ثم اتبعته، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ}(العلق:1-2)، فلما بلغ شان أبي جهل {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}(العلق:6-7)، قال إنسان لأبي جهل: يا أبا الحكم هذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل: ألا ترون ما أرى، والله لقد سد أفق السماء عليَّ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر السورة سجد"10.

وذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في السيرة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال: أبو جهل لئن عاد محمد يصلى عند المقام لاقتلنه، فأنزل الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} حتى بلغ من الآية: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}(العلق:15-18)، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فقيل: ما يمنعك؟ قال: قد أسودَّ ما بيني وبينه من الكتائب، قال ابن عباس: والله لو تحرك لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه.

وروى ابن جرير بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم، قال: فقال: واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه بالتراب، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته، قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، قال: فقيل له: مالك؟ قال: إن بيني وبينه خندقاً من نار، وهولاً، وأجنحة، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو دنا منى لاختطفته الملائكة عضواً عضواً))11.

§       إيذاء عقبة بن أبي معيط للنبي صلى الله عليه وسلم:

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش جاء عقبة ابن أبي معيط بسلى جزور فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة عليها السلام فأخذته من ظهره، ودعت على من صنع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم عليك الملأ من قريش: أبا جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، أو أبي بن خلف)) – شعبة الشاك – فرأيتهم قتلوا يوم بدر فألقوا في بئر غير أمية أو أبي تقطعت أوصاله فلم يُلقَ في البئر" رواه البخاري برقم (3641).

§       النبي صلى الله عليه وسلم في شعب أبي طالب:

وبعد أن أظهر النبي صلى الله عليه وسلم دعوته، وأسلم عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه؛ أدركت قريش الخطر المداهم لها في زعمها، فأجمعوا على أن يتعاقدوا على بني هاشم وبني المطلب وبني عبد مناف: ألا يبايعوهم، ولا يناكحوهم، ولا يكلموهم، ولا يجالسوهم؛ حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم، وكتبوا بذلك صحيفة، وعلقوها في سقف الكعبة، يقال: كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم، ويقال: النضر بن الحارث، والصحيح: أنه بغيض بن عامر بن هاشم، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فشلَّت يده، فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم إلا أبا لهب فإنه ظاهر قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبني هاشم وبني المطلب، وحبس رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن معه في الشعب شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة، وعُلِّقت الصحيفة في جوف الكعبة، وبقوا محبوسين ومحصورين مضيقاً عليهم جداً، مقطوعاً عنهم الميرة والمادة نحو ثلاث سنين، حتى بلغهم الجهد، وسُمع أصوات صبيانهم بالبكاء من وراء الشعب، وهناك عمل أبو طالب قصيدته اللامية المشهورة أولها:

جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً      عقوبة شر عاجلاً غير آجل

وكانت قريش في ذلك بين راض وكاره، فسعى في نقض الصحيفة من كان كارهاً لها، وكان القائم بذلك هشام بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك، مشى في ذلك إلى المطعم بن عدي وجماعة من قريش فأجابوه إلى ذلك، ثم أطلع الله رسوله على أمر صحيفتهم، وأنه أرسل عليها الأرضة فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم إلا ذكر الله عز وجل، فأخبر بذلك عمه؛ فخرج إلى قريش فأخبرهم أن ابن أخيه قد قال كذا وكذا فإن كان كاذباً خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقاً رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا، قالوا: قد أنصفت، فأنزلوا الصحيفة فلما رأوا الأمر كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ازدادوا كفراً إلى كفرهم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الشعب، قال ابن عبد البر: بعد عشرة أعوام من المبعث، ومات أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر، وماتت خديجة بعده بثلاثة أيام، وقيل: غير ذلك"12.

§       إيذاء أهل الطائف للنبي صلى الله عليه وسلم:

 ثم بعد هذا الحصار الخانق نُقضت الصحيفة، وبعد أن نُقضت الصحيفة اشتد البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم زاد المعاد: "اشتد البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفهاء قومه، وتجرؤوا عليه؛ فكاشفوه بالأذى فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الطائف رجاء أن يؤوه، وينصروه على قومه، ويمنعوه منهم، ودعاهم إلى الله عز وجل فلم ير من يؤوي، ولم ير ناصراً، وآذوه مع ذلك أشد الأذى، ونالوا منه ما لم ينله قومه، وكان معه زيد بن حارثة مولاه فأقام بينهم عشرة أيام لا يدع أحداً من أشرافهم إلا جاءه وكلَّمه، فقالوا: أخرج من بلدنا، وأغروا به سفهاءهم، فوقفوا له سماطين (أي: صفين)، وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شجاج في رأسه، فانصرف راجعاً من الطائف إلى مكة محزوناً، وفي مرجعه ذلك دعا بالدعاء المشهور دعاء الطائف: ((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتى، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين، وأنت ربى، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني؟ أو إلى عدو ملَّكته أمري، إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة؛ أن يحل عليَّ غضبك، أو أن ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك))13، فأرسل ربه تبارك وتعالى إليه ملك الجبال يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة وهما جبلاها اللذان هي بينهما"14 أ.هـ، وفي الصحيحين قالت عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: ((لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلَّم عليَّ ثم قال: يا محمد، فقال ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً)) رواه البخاري برقم (3059)؛ ومسلم برقم (1795).

هذه بعض المواقف ذكرناها للاعتبار والاقتداء به صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فعلى كل داعية أن يصبر على الأذى لأنه سنة من سنن الله تبارك وتعالى لمن سلك طريق الأنبياء قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ}(الأحقاف:35)، وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}(الأحزاب:21).

نسأل الله تبارك وتعالى أن يجزيه عنا خير ماجزى نبياً عن أمته، وأن يرزقنا اتباعه والاقتداء به في جميع أمورنا بمنه وكرمه، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1 الاستيعاب في معرفة الأصحاب (1/55) للإمام يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل – بيروت، ط1 (1412هـ)؛ الإصابة في تمييز الصحابة (1/326).

2 الاستيعاب في معرفة الأصحاب (1/54).

3 الاستيعاب في معرفة الأصحاب (1/13).

4 تفسير القرآن العظيم (7/446) للإمام الحافظ أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، تحقق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط2 (1420هـ-1999م).

5 رواه أحمد في المسند برقم (16066) وقال شعيب الأرناؤوط: صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن، عبد الرحمن بن أبي الزناد ينزل عن رتبة الصحيح وباقي رجاله ثقات رجال الصحيح، تحقق: شعيب الأرناؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة، ط2 (1420هـ-1999م)؛ ورواه الحاكم في المستدرك من حديث طارق بن عبد الله المحاربي رضي الله عنه برقم (4219) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية – بيروت، ط1 (1411هـ-1990م).

6 رواه ابن حبان في صحيحه برقم (6511) وقال شعيب الأرناؤوط: حديث صحيح بشواهده، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة – بيروت، ط2، (1414هـ-1993م)؛ ورواه الحاكم من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما في المستدرك برقم (3376) وقال:هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

7 السيرة النبوية لابن كثير (2/148) بتصرف يسير.

8 سيرة ابن هشام (1/358) لعبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري أبو محمد، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل – بيروت، ط1 (1411هـ).

9  سيرة ابن كثير (2/51).

10 رواه الحاكم في المستدرك برقم (5413) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في التلخيص: فيه عبد الله بن صالح وليس بعمدة وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وهو متروك؛ والطبراني في المعجم الأوسط برقم (8691)؛ وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: "فيه إسحاق بن أبي فروة وهو متروك" (8/230) للإمام علي بن أبي بكر الهيثمي، دار الريان للتراث – ‏دار الكتاب العربي – القاهرة، بيروت (1407هـ).

11 انظر: السيرة النبوية لابن كثير (1/467) بتصرف يسير.

12 بتصرف من زاد المعاد في هدي خير العباد (3/26) لمحمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة – مكتبة المنار الإسلامية – بيروت – الكويت، ط14 (1407هـ-1986م).

13 ضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة برقم (293) للإمام محمد ناصر الدين بن الحاج نوح الألباني، دار المعارف – الرياض، ط1 (1412هـ-1992م).

14 زاد المعاد (3/28).