العبادة

العبادة

الحمد الله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، وجامع الناس ليوم الدين، خلق الخلق وأحصاهم عداً، وأمرهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، فله الحمد في الآخرة والأولى، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

إن الغاية التي خُلق الخلق من أجلها هي عبادة الله – تبارك وتعالى – قال الله – تبارك وتعالى -: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ}1, وهو سبحانه غني عنا, لا تنفعه عبادة العابدين، ولا تضره معصية العاصين قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}2، وعن أبي ذر – رضي الله عنه -: عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما روى عن الله – تبارك وتعالى – أنه قال: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه))3.

وعبادة الله "هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه: من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، كالصلاة والزكاة، والصيام والحج، وصدق الحديث وأداء الأمانة؛ وبر الوالدين وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر4" كما قال شيخ الإسلام – رحمه الله -.

والعبادة لفظ عام يشمل كل ما يرضي الله – تبارك وتعالى -، فالصلاة والزكاة، والصيام والحج؛ من أعظم أنواع العبادة، وهي أركان الإسلام، وكذلك الصفات الحميدة، والأخلاق الفاضلة هي من أنواع العبادة كالصدق في الحديث، وأداء الأمانة، والبر بالوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهد، والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، والإحسان إلى الجار واليتيم، والمسكين والمماليك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر، والقراءة وأعمال القلوب من حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، فالدين كله داخل في العبادة، وأعظم أنواع العبادة أداء ما فرضه الله، وتجنب ما حرمه الله – تبارك وتعالى – فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته))5.

وحتى تكون العبادة صحيحة مقبولة لا بد لها من توفر أمرين:

1-      الإخلاص لله – تبارك وتعالى -، وذلك لأن الله – تعالى – لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً قال الله – تبارك وتعالى -: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ}6، وقال: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ}7, وقال: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي}8, وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال الله – تبارك وتعالى -: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه))9؛ ولقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى….))10؛ ومن كرم الله – تبارك وتعالى – أنه كتب الأجر على العادات التي يفعلها الإنسان بقصد التزود على طاعة الله – تعالى -، فإنها تنقلب إلى عبادة كأن يأكل ليتقوى على عبادة الله – تبارك وتعالى -, وكأن ينام مبكراً من أجل أن يقوم الليل؛ ولا يكون العمل عبادة إلا إذا أكتمل فيه شيئان هما: كمال الحب مع كمال الذل قال – تعالى -: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ}11، وقال – تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ}12، وقد جمع الله – تعالى – بين ذلك في قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}13"14.

2-      المتابعة لشرع الله – تبارك وتعالى – باتباع كتاب الله – تعالى -، وسنة النبي – صلى الله عليه وسلم -، وذلك لأن العمل إذا عمل على غير اتباع وقع عامله في الابتداع – والعياذ بالله تعالى – كما في حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد))15، وفي رواية لمسلم من حديث عائشة – رضي الله عنها -: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))16.

فاحرص عبد الله على الاتباع والانقياد لشرع الله – تبارك وتعالى – خاصة وأن الغاية من وجودك هي عبادة الله – تبارك وتعالى -، واعلم أن لكل شيء زينة وزينة العبد العبادة، قال حاتم الأصم – رحمه الله -: "لكل شيء زينة وزينة العبادة الخوف، وعلامة الخوف قصر الأمل17", وعليك أن تدعو الله بحسن الختام، وألا تغتر بصالح الأعمال قال حاتم الأصم – رحمه الله -: " لا تغتر بموضع صالح فلا مكان أصلح من الجنة، وقد لقي آدم فيها ما لقي، ولا تغتر بكثرة العبادة فإن إبليس بعد طول تعبده لقي ما لقي، ولا تغتر بكثرة العلم فإن بلعام كان يحسن اسم الله الأعظم، فانظر ماذا لقي، ولا تغتر برؤية الصالحين فلا شخص أكبر من المصطفى فلم ينتفع بلقائه أقاربه وأعداؤه18".

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يكرمنا بطاعته، وأن يتجاوز عن سيئاتنا، وأن يختم لنا بالحسنى؛ إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين نبينا محمد وآله وصحبه.


1 سورة الذاريات (56- 57).

2 سورة فاطر (15).

3 رواه مسلم في صحيحه برقم (2577).

4 مجموع الفتاوى (10/149)، ورسالة العبودية (1)؛ الفتاوى الكبرى (5/155) بتصرف يسير جداً.

5 رواه البخاري في صحيحه برقم (6137).

6 سورة الزمر (2).

7 سورة الزمر (11).

8 سورة الزمر (14).

9 رواه مسلم في صحيحه برقم (2985).

10 رواه البخاري في صحيحه برقم (6311), وبرقم (6553)؛ ومسلم برقم (1907).

11 سورة البقرة (165).

12 سورة المؤمنون (57).

13 سورة الأنبياء (90).

14 أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة (8).

15 رواه البخاري في صحيحه برقم (2550)؛ ومسلم برقم (1718).

16 رواه مسلم برقم (1718).

17 الاستعداد للموت وسؤال القبر (1/1).

18 الاستعداد للموت وسؤال القبر(1/27).