من حكم المتشابه في القرآن

من حكم المتشابه في القرآن

 

الحمد لله الذي أنزل القرآن معجزة خالدة، وآية للباطل دامغة، وحجة على الكافرين بالغة، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قرآناً عربياً غير ذي عوج، سراجاً منيراً، بشيراً للعالمين ونذيراً {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}1، والصلاة والسلام على من أنزل عليه القرآن تبياناً لكل شيء، وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

أيها المسلمون: أنزل الله – تعالى – كلامه العزيز على نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم -، وجعله معجزته الخالدة، وجعله قرآنياً عربياً مبيناً ليكون فرقاناً بين الحق والباطل، وهدى للمؤمنين، وحجة على المكذبين، وتكفل – سبحانه – بحفظه إلى يوم الدين، ووصفه بأنه ميسر للذكر فقال – تعالى -: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}2، قال الشنقيطي – رحمه الله – عند كلامه على الذين يوجبون تقليد المذاهب، ويحرِّمون الخروج عنها بوجه من الوجوه عند تفسيره لقوله – تعالى -: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} "فتأمل يا أخي – رحمك الله -: كيف يسوغ لمسلم أن يقول بمنع الاهتداء بكتاب الله، وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، وعدم وجوب تعلمهما والعمل بهما؛ استغناء عنهما بكلام رجال غير معصومين، ولا خلاف في أنهم يخطئون، فإن كان قصدهم أن الكتاب والسنة لا حاجة إلى تعلمهما، وأنهما يغني غيرهما؛ فهذا بهتان عظيم، ومنكر من القول وزور، وإن كان قصدهم أن تعلمهما صعب لا يقدر عليه فهو أيضاً زعم باطل، لأن تعلم الكتاب والسنة أيسر من تعلم مسائل الآراء والاجتهاد المنتشرة، مع كونها في غاية التعقيد والكثرة، والله – جل وعلا – يقول في سورة القمر مرات متعددة: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}3، ويقول – تعالى – في الدخان: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}4, ويقول في مريم: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً}5، فهو كتاب ميسر بتيسير الله لمن وفقه الله للعمل به، والله – جل وعلا – يقول: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}6، ويقول: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}7 فلا شك أن الذي يتباعد عن هداه؛ يحاول التباعد عن هدى الله ورحمته، ولا شك أن هذا القرآن العظيم هو النور الذي أنزله الله إلى أرضه ليستضاء به، فيعلم في ضوئه الحق من الباطل، والحسن من القبيح، والنافع من الضار، والرشد من الغي قال الله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً}8 وقال – تعالى -: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}9, وقال – تعالى -: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}10، وقال – تعالى -: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا}11، وقال – تعالى -: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}12.

فإذا علمت أيها المسلم أن هذا القرآن العظيم هو النور الذي أنزله الله ليستضاء به، ويهتدى بهداه في أرضه؛ فكيف ترضى لبصيرتك أن تعمى عن النور؟ فلا تكن خفاشي البصيرة، واحذر أن تكون ممن قيل فيهم:

خفافيش أعماها النهار بضوئه                ووافقها قطع من الليل مظلم

مثل النهار يزيد أبصار الورى                نوراً ويعمي أعين الخفاش"13

وهنا سؤال يورده بعض الملاحدة (كما قيل)، أو قد يرد على أذهان بعض المسلمين وهو: أن الله ذكر عن كتابه العزيز أنه ميسر للذكر، فكيف أنزل – سبحانه – فيه قسم متشابه وما الحكمة في ذلك؟

وقد تصدى العلماء لهذا التساؤل، وفتح الله عليهم بأجوبة تشفي العليل، وتروي الغليل، ونحن هنا نورد كلام أحدهم وهو الإمام السيوطي – رحمه الله – في كتابه (الإتقان) حين قال: "وقال بعضهم: إن قيل ما الحكمة في إنزال المتشابه ممن أراد لعباده به البيان والهدى قلت:

إن كان مما يمكن علمه فله فوائد:

       منها: الحث للعلماء على النظر الموجب للعلم بغوامضه، والبحث عن دقائقه، فإن استدعاء الهمم لمعرفة ذلك من أعظم القُرب.

   ومنها: ظهور التفاضل، وتفاوت الدرجات؛ إذ لو كان القرآن كله محكماً لا يحتاج إلى تأويل ونظر لاستوت منازل الخلق، ولم يظهر فضل العالم على غيره.

وإن كان مما لا يمكن علمه فله فوائد:

– منها ابتلاء العباد بالوقوف عنده، والتوقف فيه، والتفويض والتسليم والتعبد بالاشتغال به من جهة التلاوة كالمنسوخ، وإن لم يجز العمل بما فيه وإقامة الحجة عليهم لأنه لما نزل بلسانهم ولغتهم، وعجزوا عن الوقوف على معناه مع بلاغتهم وأفهامهم؛ دلَّ على أنه نزل من عند الله، وأنه الذي أعجزهم عن الوقوف على معناه، وقال الإمام فخر الدين: من الملحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات، وقال: إنكم تقولون: إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة، ثم إنَّا نراه بحيث يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه، فالجبري متمسك بآيات الجبر كقوله – تعالى -: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً}14، والقدري يقول: هذا مذهب الكفار؛ بدليل أنه – تعالى – حكى ذلك عنهم في معرض الذم في قوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ}15، وفي موضع آخر: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ}16، ومنكر الرؤية متمسك بقوله – تعالى -: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}17، ومثبت الجهة متمسك بقوله – تعالى -: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}18، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}19، والنافي متمسك بقوله – تعالى -: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}20، ثم يسمى كل واحد الآيات الموافقة لمذهبه: محكمة، والآيات المخالفة له: متشابهة، وإنما آل في ترجيح بعضها على البعض إلى ترجيحات خفية، ووجوه ضعيفة، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى يوم القيامة هكذا؟

قال: والجواب أن العلماء ذكروا لوقوع المتشابه فيه فوائد:

منها: أنه يوجب المشقة في الوصول إلى المراد، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب.

ومنها: أنه لو كان القرآن كله محكماً لما كان مطابقاً إلا لمذهب واحد، وكان بصريحه مبطلاً لكل ما سوى ذلك المذهب، وذلك مما ينفر أرباب سائر المذاهب عن قبوله، وعن النظر فيه، والانتفاع به، فإذا كان مشتملاً على المحكم والمتشابه؛ طمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يؤيد مذهبه، وينصر مقالته، فينظر فيه جميع أرباب المذاهب، ويجتهد في التأمل فيه صاحب كل مذهب، وإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسِّرة للمتشابهات، وبهذا الطريق يتخلص المبطل من باطله، ويتصل إلى الحق.

ومنها: أن القرآن إذا كان مشتملاً على المتشابه؛ افتقر إلى العلم بطريق التأويلات، وترجيح بعضها على بعض، وافتقر في تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو، والمعاني والبيان، وأصول الفقه، ولو لم يكن الأمر كذلك لم يحتج إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة، فكان في إيراد المتشابه هذه الفوائد الكثيرة.

ومنها: أن القرآن مشتمل على دعوة الخواص والعوام، وطبائع العوام تنفر في أكثر الأمر عن درك الحقائق، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه؛ ظن أن هذا عدم ونفي، فوقع التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما توهموه وتخيلوه، ويكون ذلك مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح، فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من المتشابهات، والقسم الثاني وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر من المحكمات"21.

نسأل الله – تعالى – أن يفتح لنا في كتابه الكريم فتح العارفين، ويهدينا إلى مراده من كلامه إنه قريب مجيب، والحمد لله رب العالمين.


1 سورة النساء (82).

2 سورة القمر (22).

3 سورة القمر (17).

4 سورة الدخان (58).

5 سورة مريم (97).

6 سورة العنكبوت (49).

7 سورة الأعراف (52).

8 سورة النساء (174).

9 سورة المائدة (15-16).

10 سورة الشورى (52).

11 سورة التغابن (8).

12 سورة الأعراف (157).

13 أضواء البيان (7/262-263).

14 سورة الأنعام (25).

15 سورة فصلت (5).

16 سورة البقرة (88).

17 سورة الأنعام (103).

18 سورة النحل (50).

19 سورة طه (5).

20 سورة الشورى (11).

21 الإتقان في علوم القرآن (3/35-37).