أيها الإمام خشوعك خشوعهم

أيها الإمام خشوعك خشوعهم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه أما بعد:

الإمام في الصلاة يقتدي به الناس في الأفعال، فمن خالفه عمداً فإما أن يفارقه، أو تبطل صلاته، لأن الإمام إنما جعل ليؤتم به، لا ليخالف أو يعارض، بل يقتدي به المأمومون، وصلاتهم مرتبطة كل الارتباط بصلاته فعن أبي هريرة  قال: قال النبي : إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا1.

إن الحديث اليوم عن خشوع الأئمة ومتابعته من قبل المأموم واجبة؛ لكن فيما يستطيع، أما المتابعة في الخشوع فلا يستطيعه الكثير، بل الخشوع فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، فليس ذلك بيد الإمام ولا بيد المأموم، فما الذي نريد؟ نريد أن نعلم جميعاً أن خشوع الإمام مؤثرٌ على المأمومين، وسببٌ لخشوعهم، فهذا النبي  قد ضرب أروع الأمثلة في ذلك، فعن أنس  عن النبي  قال: ((حبب إليَّ من دنياكم: النساء، والطيب، وجُعِلَتْ قرة عيني في الصلاة))2.

ولقد كان  يهدأ إلى الصلاة، ويطمئن بها قلبه؛ بعد ذهاب وإياب في نشر دين الله، والجهاد في سبيله، وقضاء حوائج الناس، يذهب إلى الأريحية في ظل الخشوع فعن سالم بن أبي الجعد قال: قال رجل من خزاعة: ليتني صليت فاسترحت، فكأنهم عابوا ذلك عليه، فقال: سمعت رسول الله يقول: أقم الصلاة يا بلال أرحنا بها3، يقول آبادي أبو الطيب – رحمه الله تعالى -: “يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها، قال في النهاية: أي نستريح بأدائها من شغل القلب بها، وقيل: كان اشتغاله بالصلاة راحة له؛ فإنه كان يعد غيرها من الأعمال الدنيوية تعباً، فكان يستريح بالصلاة لما فيها من مناجاة الله – تعالى -؛ ولهذا قال: وجعلت قرة عيني في الصلاة، وما أقرب الراحة من قرة العين، كذا في مرقاة الصعود”4، فالنبي  سيد الخاشعين كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، وقد سار من بعده من أصحابه على خطاه خاشعين في الصلاة، منيبين إلى الله، مستأنسين بنجواه، فهذا أبو بكرٍ الصديق  لا تسمع قراءته من شدة البكاء كما ذكرت ذلك السيدة عائشة – رضي الله عنها – قالت: لما مرض النبي مرضه الذي مات فيه أتاه (أي بلال) يؤذنه بالصلاة، فقال: مروا أبا بكر فليصل، قلت: “إن أبا بكر رجل أسيف؛ إن يقم مقامك يبكِ، فلا يقدر على القراءة، قال: مروا أبا بكر فليصل ... الحديث”5، “وروي أن عمر  كان يسقط من الخوف إذا سمع آية من القرآن مغشياً عليه، فكان يعاد أياماً”6، “ولما قرأ عمر إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ7 وانتهى إلى قوله – تعالى –: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ8 خر مغشياً عليه”9، “وكان علي بن أبي طالب  وكرَّم وجهه؛ إذا حضر وقت الصلاة؛ يتزلزل ويتلون وجهه، فقيل له: ما لك يا أمير المؤمنين، فيقول: جاء وقت أمانة عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملتها”10، “ويروى عن علي بن الحسين – رحمه الله تعالى – أنه كان إذا توضأ اصفر لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ فيقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟”11.

فها هي صلاة النبي الخاشعة، وها هي صلاة أصحابه ومن سار على هديه، ونحن مأمورون أن نصلي كما رأينا النبي يصلي إذ يقول: صلوا كما رأيتموني أصلي12، والذي قال: صل صلاة مودع13، فالنبي يخبرنا أن الصلاة لا بد أن تكون خاشعة، والطريق إلى ذلك أن تدخل بنفسية الراحل، فلا تفكر إلا فيما ستلاقيه عند ربك؛ فتحسِّن صلاتك، وتخشع فيها، وتذكر الموت سبب للخشوع فعن أنس  عن النبي  قال: اذكر الموت في صلاتك؛ فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته؛ لحري أن يحسن صلاته، وصل صلاة رجلٍ لا يظن أنه يصلي صلاةً غيرها14، والإمام لا بد أن يكون قدوة للناس في هذا الباب، فيحسِن القيام والاطمئنان فيه، ويركع بخشوع، ويسجد بخضوع، يتم كل ركن حقه، لا ينقر الصلاة نقر الغراب، فتذهب سكينتها، ويذهب رونقها، وينتهي بريقها، فلا تأمر بمعروف، ولا تنهى عن منكر.

فإلى كل إمام: الخشوع .. الخشوع!


1 رواه البخاري (371).

2 رواه أحمد (11845)، والنسائي (3878)، صححه الألباني في صحيح الجامع (12/382 ).

3 رواه أبو داود (4334)، صححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/ 278).

4 عون المعبود شرح سنن أبي داود (3/ 225).

5 رواه البخاري برقم (633).

6 إحياء علوم الدين (4/183).

7 سورة التكوير (1).

8  سورة التكوير (10).

9 إحياء علوم الدين (4/183).

10 إحياء علوم الدين (1/151).

11 نفس المصدر.

12 رواه البخاري (605).

13 رواه أحمد (22400)، ابن ماجه (4161)، وغيرهم، صححه الألباني، في صحيح الجامع (742).

14 مسند الفردوس قال الألباني: حسن صحيح الجامع (849).