العجلة من الشيطان
الحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، والصلاة والسلام على نبينا محمد النبي الأمي الذي أرسله الله شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد:
يقول الله -عز وجل-: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ}(37) سورة الأنبياء. وقال تعالى: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً}(11) سورة الإسراء. وقال عليه الصلاة والسلام: (التأني من الله، والعجلة من الشيطان)1. فالعجلة صفة مذمومة في الإنسان، وهي من الشيطان، كما جاء في الحديث، وكثير من الناس يقع في أخطاء وتصرفات خاطئة، ولو تأمل لوجد أن أصل ذلك كله العجلة، فلو اتأد وتفكر وتبصر لم يلتبس عليه أمر، ولم يقع فيما وقع فيه.
"والعجلة: هي السرعة في الشيء، وهي مذمومة فيما كان المطلوب فيه الأناة، محمودة فيما يطلب تعجيله من المسارعة إلى الخيرات ونحوها، وقد يقال: لا منافاة بين الأناة والمسارعة، فإن سارع بتؤدة وتأن فيتم له الأمران، والضابط أن خيار الأمور أوسطها"2.
ومن معاني العجلة: فعل الشيء قبيل وقته الأليق به.
يقول ابن القيم: "ولهذا كانت العجلة من الشيطان فإنها خفة وطيش وحدة في العبد، تمنعه من التثبت والوقار والحلم، وتوجب وضع الشيء في غير محله، وتجلب الشرور، وتمنع الخيور، وهي متولدة بين خلقين مذمومين: التفريط، والاستعجال قبل الوقت"3.
والعجلة في الخير والمسارعة في الطاعات محمودة قال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}(133) سورة آل عمران، وقال تعالى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}(84) سورة طـه، وقال: {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}(114) سورة آل عمران. قال النيسابوري في تفسيره:"لأن المسارعة في الخير دليل فرط الرغبة فيه حتى لا يفوت ففي التأخير آفات. وما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: (العجلة من الشيطان) مخصوص بهذه الآية. على أنها لا تفيد كلية الحكم لأن القضية أهملت إهمالاً، كيف لا والأمور متفاوتة؟ منها ما يحمد فيه التأخير لكونه مما يحصل على مهل وتدريج فلو طلب منه خلاف وضعه فات الغرض، وضاع السعي، أو لكونه غير معلوم العاقبة فيفتقر إلى مزيد تدبر وتأمل. ومنها ما يحمد فيه التعجيل لضد ما قلنا فتنتهز فيه الفرصة وتغتنم، فإن الفرص تمر مر السحاب. قال -صلى الله عليه وسلم-: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)4 "5. وعد ابن حجر العجلة من الكبائر، حيث قال: "ومنها: العجلة، وترك التثبيت في الأمور، لقوله تعالى: {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً}(11) سورة الإسراء .. وإنما كانت العجلة من الشيطان لأنه عندها يروج شره على الإنسان من حيث لا يشعر، بخلاف من تمهل وتروى عند الإقدام على عمل يريده، فإنه تحصل له بصيرة به، ومتى لم تحصل تلك البصيرة فلا ينبغي الاستعجال، اللهم إلا في واجب فوري، فهذا لا مساغ للتمهل فيه"6.
وقيل: "العجلة من الشيطان، إلا في خمسة فإنها من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إطعام الطعام، وتجهيز الميت، وتزويج البكر، وقضاء الدين، والتوبة من الذنب"7.
"والإنسان بطبعه عجول، ولكن الله تعالى خلق له العقل، وأرشده إلى التثبت والتأني، فمن استعمل عقله في تحصيل هذين الخلقين الشريفين فقد فارق الشيطان في الطباع"8.
فالحلم والأناة من الصفات المحمودة، وانظر إلى قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة)9. وعن عبد الله بن سرجس المزني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (السمت الحسن، والتؤدة –أي التأني والتثبت وترك العجلة- والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة)10 أي: هذه الخصال من شمائل أهل النبوة، وجزء من أجزاء فضائلهم، فاقتدوا بهم فيها، وتابعوهم عليها، فإن أمر النبوة لا يتم بدونها.
وتجد الناس في زماننا يقولون نحن زمن السرعة فيتعجلون في كل شيء حتى في الصلاة وفي العبادات كلها، فيصلون بلا خشوع ولا اطمئنان، ويقرأون القرآن بلا تدبر، ويذكرون الله بعجلة، وإذا مشى فبتعجل، وإذا أكل أكل بعجلة، وإذا تكلم استعجل، حتى صارت حياتهم كلها عجلة، فلم يحسنوا شيئاً من أعمالهم، إلا من وفقه الله، فالله المستعان.
نسأل الله أن يجعلنا ممن رزقهم الحلم والأناة. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 – أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (ج 10/ ص 104) وحسنه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: 3011.
2 – سبل السلام – (ج 7 / ص 201)
3 – كتاب الروح ص258
4 – أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (ج 18 / ص 216 – 7957) والبيهقي في شعب الإيمان (ج 21 / ص 203 – 9882) وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: 1077 .
5 – تفسير النيسابوري – (ج 2 / ص 337)
6 – الزواجر عن اقتراف الكبائر (ج 1 / ص 215)
7 – المقاصد الحسنة (ج 1 / ص 84)
8 – بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية (ج 4 / ص 135)
9 – أخرجه مسلم – (ج 1 / ص 107)
10 – أخرجه الترمذي (ج 7 / ص 296) وحسنه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: 3692.