القتل

القتل

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأطهار وصحابته الأخيار وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فإن من مقاصد الشريعة السلامية المحافظة على الضروريات الخمس التي منها حفظ النفس، وحفظ النفس يكون بعدم تعريضها للهلاك أو القتل، ولذلك حرمت الشريعة الإلقاء بالنفس إلى التهلكة قال الله – تبارك وتعالى -: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}1, قال الشاطبي – رحمه الله -: "اتفقت الأمة بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وعلمها عند الأمة كالضروري2", وكذلك حرمت القتل, وجاءت بعقوبة رادعة لمن فعل هذه الفعلة, ومن الأدلة على تحريم القتل ما يلى:

قال الله – تبارك وتعالى -: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}3, فقتل المؤمن بغير حق سبب في دخول النار وخلوده فيها – والعياذ بالله -، وكذلك سبب في غضب الله عليه ولعنه له، وهذا قد يُحمَلُ على من فعل ذلك مستحلاً, أو فعله ولم يتب, وقد قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله تعالى -: "هذه وإن كانت مدنية إلا أنها مطلقة، فتحمل على من لم يتب لأن هذه مقيدة بالتوبة، ثم قد قال – تعالى -: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}4 الآية، قد ثبتت السنة الصحيحة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بصحة توبة القاتل كما ذكر مقرراً من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب فقبل الله توبته5, وغير ذلك من الأحاديث6", وقد قال الله – تبارك وتعالى – في من فعل القتل والزنا وغيرها من الآثام ثم تاب: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}7, فمن تاب تاب الله عليه في حقه, لكن تبقى الدماء من حقوق العباد؛ فيُعَذَّبُ في النار على قدر جرمه، ثم يخرج من النار، ويدخل الجنة, ومن قتل نفساً قُتِلَ بها قصاصاً لقول الله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}8, وقال الله – تبارك وتعالى – مخيراً أولياء المقتول بين القتل وأخذ الدية: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}9، وعن أبي هريرة – رضي الله عنه -: عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات))10 وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً))11, وعن ثابت بن الضحاك – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((من حلف بملة غير الإسلام كاذباً متعمداً فهو كما قال، ومن قتل نفسه بحديدة عذب بها في نار جهنم))12 قال الإمام ابن حزم – رحمه الله -: "لا ذنب عند الله – عز وجل – بعد الشرك أعظم من شيئين أحدهما: ترك صلاة فرض حتى يخرج وقتها، والثاني: قتل مؤمن أو مؤمنة عمداً بغير حق13".

قتل المعاهد:

ولشناعة القتل فقد حرَّم الله – تبارك وتعالى – قتل المعاهد وذلك لأنه دخل بأمان فلا يجوز قتله, وورد في ذلك الوعيد الشديد فعن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما -: عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً))14.

وربما أشكل على الناس أن كثيراً من هؤلاء يدعوا لنصرانيته، ويحاول أن ينصر المسلمين فما الحكم إذا؟

الجواب هو أن على الحاكم منع مثل هذا الأعمال, فإذا لم يمتنع منها اتخذ عقوبة مناسبة له إما بترحيله، أو بقتله لأنه يريد إخراج الناس من دين الله – تبارك وتعالى -، والله أعلم.

متى يُشرع تعريض النفس للقتل؟

ويشرع ذلك في القتال في سبيل الله – تبارك وتعالى – لإعلاء كلمة الله, والدفاع عن النفس والعرض قال الله – تبارك وتعالى -: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ}15, وقال: {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}16, وقال: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}17, ومن قاتل في سبيل الله – تبارك وتعالى – فقُتِلَ أدخله الله الجنة، وذلك ثابت في السنة في عدة أحاديث منها قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة))18, وعن معاذ بن جبل – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فواق ناقة وجبت له الجنة، ومن جرح جرحاً في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها الزعفران، وريحها كالمسك))19, وعن المقدام بن معد يكرب – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه))20, ولا يجمع الله بين مؤمن وقاتله في النار أبداً وذلك لحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا يجتمعان في النار اجتماعاً يضر أحدهما الآخر)) قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: ((مؤمن قتل كافراً ثم سدد))21, وعن أبي هريرة – رضي الله عنه -: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبداً))22.

والخلاصة: أنه لا يجوز قتل المسلم معصوم الدم, ومن قتله استحق العذاب من الله – تبارك وتعالى -، ويخرج الإنسان من العصمة بأمور جاء توضيحها في حديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة))23.

نسأل الله – تعالى – أن يعصم أيدينا من الدماء المحرمة بمنَّه وكرمه، وأن يعفو عنا الزلل، ويتجاوز عنا إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على البشير النذير صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الكرام وسلم تسليماً كثيراً.


1 سورة البقرة (195).

2 الموافقات (1/38).

3 سورة النساء (92-93).

4 سورة النساء (48).

5  رواه البخاري برقم (3283)؛ ومسلم برقم (2766) من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه -.

6 تفسير ابن كثير (3/435).

7 سورة الفرقان (68-70).

8 سورة البقرة (178).

9 سورة الإسراء (33).

10 رواه البخاري برقم (2615)؛ ومسلم برقم (89).

11 رواه البخاري برقم (6469).

12 رواه البخاري برقم (1297).

13 المحلى (10/342)؛ وانظر نيل الأوطار للشوكاني (7/50).

14 رواه البخاري رقم (2995) و(6516).

15 سورة البقرة (190).

16 سورة النساء (76).

17 سورة التوبة (29).

18 رواه الترمذي برقم (1650) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن؛ وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1301).

19 رواه الترمذي برقم (1657)؛ والنسائي برقم (3131)، وقال الألباني: صحيح لغيره في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1278).

20 رواه الترمذي برقم (1663)، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب؛ وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (47).

21 رواه مسلم برقم (1891).

22 رواه مسلم برقم (1891).

23  رواه البخاري برقم (6484)؛ ومسلم برقم (1676).