الشعر في خطبة الجمعة

الشعر في خطبة الجمعة

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإنه مما لا شك فيه ما تلعبه خطبة الجمعة من دور كبير في أوساط المجتمع الإسلامي، وفي تربية أبناء المسلمين، وخطبة الجمعة تحظى بعدة مزايا وخصائص منها:

·   أن الجمعة هي مؤتمر أسبوعي يجتمع فيه المسلمون كل أسبوع ليقيموا شعيرة من شعائر الله – عز وجل -، وإنما سميت الجمعة "جمعة" لأنها مشتقة من الجمع، فإن أهل الإسلام يجتمعون فيها في كل أسبوع مَرَّةً بالمعابد الكبار، في يوم كَمُل فيه جميع الخلائق فإنه اليوم السادس من الستة الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض، وفيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة، وفيها ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه، كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحاح1.

·   أن منبر الجمعة منبر إعلامي لا يضاهيه منبر إعلامي آخر؛ لأنه يجتمع إليه ملايين من البشر للاستماع لما يوجه من هذا المكان من كلام.

·       أن خطبة الجمعة من وسائل تبصير الخلق بدينهم، فمنها يتعلم الجاهل، ويذكر الغافل، ويتربى الجيل الصاعد على أمور الدين… الخ.

هذه من أبرز المزايا التي تتميز بها الجمعة، ولهذا فإن المتصدرين لهذا المكان عليهم مسؤولية كبيرة في تعليم الناس وتبصرتهم، فعلى الخطيب أن ينوع أساليب إلقاء الخطبة في المنبر، فلا يسير بالخطبة على وتيرة واحدة؛ لأن هذا مما يبعث على الملل عند السامع، بل على الخطيب أن ينوع من أساليبه في الإلقاء، وأن يجدد؛ ليبعث في النفوس حب الإصغاء، ويزيل عنها الملل الحاصل في النفوس، ومن ذلك أن يدخل القصة المؤثر، والشعر الهادف، والنقاش المثمر المؤيد بالدليل.

وهنا نتوقف لنناقش ما قد اختلف العلماء فيه في حكم الاستشهاد بالشعر في خطبة الجمعة، وهم على قولين:

الأول: المنع، واستدلوا بحديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَنَاشُدِ الْأَشْعَارِ فِي الْمَسْجِدِ، وَعَنْ الْبَيْعِ وَالِاشْتِرَاءِ فِيه،ِ وَأَنْ يَتَحَلَّقَ النَّاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ)) 2، وهذا الحديث أشهر ما في الباب في النهي عن إنشاد الشعر في المسجد.

الثاني: الجواز، واستدلوا بحديث سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ – رضي الله عنه – قَالَ: "مَرَّ عُمَرُ فِي الْمَسْجِدِ وَحَسَّانُ يُنْشِدُ فَقَالَ: كُنْتُ أُنْشِدُ فِيهِ وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ ((أَجِبْ عَنِّي، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)) قَالَ: نَعَمْ"3، وغيرها من الأحاديث.

وبكلٍ قال جماعة من أهل العلم، واشتمال الخطبة على اليسير من الشعر الذي يحصل به مقصود الخطبة من الوعظ والتذكير ليس في الشريعة ما يمنعه، وكون النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يستعمل ذلك في خطبة الجمعة لا يدل على منعه أو كراهيته، لاسيما وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يذكر الشعر في كلامه عموماً إلا قليلاً.

فَالْجَمْع بَيْنَهَا وَبَيْن أحَادِيث الْمنع: "أَنْ يُحْمَلَ النَّهْيُ عَلَى تَنَاشُدِ أَشْعَارِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمُبْطِلِينَ، وَالْمَأْذُونِ فِيهِ مَا سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَا إِذَا كَانَ التَّنَاشُد غَالِبًا عَلَى الْمَسْجِدِ حَتَّى يَتَشَاغَلَ بِهِ مِنْ فِيهِ"4.

"والاستشهاد بالشعر مما يزين الخطبة، ويزيد من التأثر بها لدى السامع، فإن الشعر في موضعه يشد السامع، ويلهب عاطفته، ويحرك نفسه، وفي الحديث الصحيح عن أبي بن كعب – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن من الشعر لحكمة))5.

ومن أول أغراض الشعر أن يكون في المواعظ، والأمثال، والآداب، والأخلاق، والحث على الجهاد أو الإنفاق، أو خلال وصفات الخير المتنوعة، وكذلك ما يرقق القلوب من شعر الزهد، والقناعة، والتذكير بالآخرة والجزاء.

ولهذا فإن الصحابة – رضي الله عنهم – استشهدوا بالشعر في مواطن مختلفة: في موطن العظة، وفي مقام الجهاد، فقد تمثلت عائشة – رضي الله عنها – بالشعر عند مرض أبيها فقالت: حضرت أبي – رضي الله عنه – وهو يموت، وأنا جالسة عند رأسه، فأخذته فتمثلت ببيت من الشعر:

من لا يزال دمعه مقنعاً               فإنه لا بد مرة مدفوق

والمقصود أن إنشاء الشعر الحق الطيب في الخطب، والمواعظ، والمحاضرات، وخطب الجمعة، والأعياد لا بأس به؛ لأنه يؤثر ويحصل به خير عظيم"6.

والمقصود هو أن يضفي الخطيب في خطبته ما يستثير به انتباه السامعين، ويزيل عنهم الملل والخمول أثناء استماعهم للخطبة، وأن ينوع من أساليب الإلقاء والعرض للخطبة، نسأل الله – عز وجل – أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتابه إنه ولي ذلك، والقادر عليه، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.


1 تفسير ابن كثير (8/119).

2 الترمذي (296)، مشكاة المصابيح (1/161).

3 البخاري (2973).

4 فتح الباري لابن حجر (2/189).

5 البخاري (5679).

6 خطبة الجمعة ودورها في تربية الأمة بتصرف (1/32).