دينكم دينكم أيها المسلمون

 

 

دينكم دينكم أيها المسلمون!!

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله المتصرف في عباده بما يريد {لَايُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}1، الحمد لله العزيز في قهره، الغالب على أمره، الحكيم في شرعه {وَهُوَالْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}2، الحمد لله أرغم أنوف الطغاة، وخفض رؤوس الظلمة، ومزَّق شمل الجبابرة، ودمّر سد مأرب بفأرة، وأهلك النمرود ببعوضة، وهزم أبرهة بطير أبابيل، أحمده شاكراً طائعاً، وأعبده صاغراً خاضعاً، وأؤمن بربوبيته مخلصاً موحداً، وأوقن بالمعاد مصدقاً معتقداً، وأشهد أن لا إله إلا الله منشئ الأمم ومبيدها، ومنشر الرمم ومعيدها وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، أرسله رحمة للعالمين،وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين صلى عليه وسلم وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين، أما بعد:

أيها المسلمون: يقول الحق – سبحانه – في محكم التنزيل: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ *فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}3 قال القرطبي: “{آية} أي علامة دالة على قدرة الله – تعالى – على أن لهم خالقاً خلقهم، وأن كل الخلائق لو اجتمعوا على أن يخرجوا من الخشبة ثمرة لم يمكنهم ذلك، ولم يهتدوا إلى اختلاف أجناس الثمار وألوانها،وطعومها وروائحها، وأزهارها، وفي ذلك ما يدل على أنها لا تكون إلا من عالم قادر”4،

وقال الشوكاني – رحمه الله -: “وهاتان الجنتان كانتا عن يمين واديهم وشماله، قد أحاطتا به من جهتيه، وكانت مساكنهم في الوادي”5، وقال أيضاً – رحمه الله -: “والآية هي الجنتان، كانت المرأة تمشي فيهما وعلى رأسها الكتل، فيمتلئ من أنواع الفواكه التي تتساقط من غير أن تمسها بيدها، وقال عبد الرحمن بن زيد: إن الآية التي كانت لأهل سبأ في مساكنهم: أنهم لم يروا فيها بعوضة، ولا ذباباً، ولا برغوثاً، ولا قملة، ولا عقرباً، ولا حية، ولا غير ذلك من الهوام، وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل ماتت عند رؤيتهم لبيوتهم، {كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ}6 أي: على ما رزقكم من هذه النعم، واعملوا بطاعته، واجتنبوا معاصيه،”7 ثم ذكر – سبحانه – ما كان منهم بعد هذه النعمة التي أنعم بها عليهم، فقال: {فأعرضوا} أي: عن الشكر، وكفروا بالله، وكذبوا أنبياءهم، قال السدي: “بعث الله إلى أهل سبأ ثلاثة عشر نبياً فكذبوهم، وكذا قال وهب، ثم لما وقع منهم الإعراض عن شكر النعمة؛ أرسل الله عليهم نقمة سلب بها ما أنعم به عليهم، فقال: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ }8

وذلك أن الماء كان يأتي أرض سبأ من أودية اليمن، فردموا ردماً بين جبلين، وحبسواالماء، وجعلوا في ذلك الردم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض، وكانوا يسقون من الباب الأعلى، ثم من الباب الثاني، ثم من الثالث، فأخصبوا، وكثرت أموالهم، فلما كذبوا رسلهم بعث الله جرذاً (فأراً) {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}9، ففتقت ذلك الردم حتى انتقض، فدخل الماء جنتهم فغرقها، ودفن السيل بيوتهم فهذا هو سيل العرم”10 أي السيل العارم الشديد الذي لا يطاق.

“فتفرقوا عنها، ومزقوا شر ممزق، وضرب بهم الأمثال التي منها قولهم: “تفرقوا أيدي سبأ” وهو مثل بضرب لمن تفرق شملهم تفرقاً لا اجتماع لهم معه، وهذا ما حدث لقبيلة سبأ، فقد تفرق بعضهم إلى المدينة المنورة كالأوس والخزرج، وذهب بعضهم إلى عمان كالأزد، وذهب بعضهم إلى الشام كقبيلة غسان…”11.

{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور} أي: ذلك الذي فعلناه بهم من تبديل جنتيهم بحنتين ذواتى أكل خمط هو الجزاء العادل لهم بسبب جحودهم وترفهم، وفسوقهم عن أمرنا، وإن من شأننا وسنتنا أن لا نعاقب ولا نجازى هذا الجزاء الرادع الشديد إلا لمن جحد نعمنا، وكفر بآياتنا، وآثر الغي على الرشد، والعصيان على الطاعة”12.

{وجعلنا بينهم وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا} “كمكة في الجزيرة العربية، وكبيت المقدس في بلاد الشام؛ جعلنا بينهم وبين تلك القرى المباركة {قُرًى ظَاهِرَةً} أي: قرى متقاربة متواصلة”13؛

قال ابن كثير – رحمه الله -: “يذكر – تعالى – ما كانوا فيه من الغِبْطة والنعمة،والعيش الهني الرغيد، والبلاد الرخية، والأماكن الآمنة، والقرى المتواصلة المتقاربة بعضها من بعض، مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها، بحيث إن مسافرهم لا يحتاج إلى حَمل زاد ولا ماء، بل حيث نزل وجد ماء وثمراً، ويَقيل في قرية ويبيت في أخرى بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم”14.

{وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} “أي: وجعلنا زمن السير من قرية إلى أخرى مقدراً محدداً،بحيث لا يتجاوز مدة معينة قد تكون نصف يوم أو أقل، وقالوا: كان المسافر يخرج من قرية فيدخل الأخرى قبل حلول الظلام بها، ولكنهم لم يقدروا هذه النعمة، بل بلغ بهم الجهل والحمق والبطر أنهم دعوا الله – تعالى – بقولهم – كما حكى القرآن عنهم -: {فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} أي: مع أننا بفضلنا وإحساننا قد أعطيناهم تلك النعمة، ومكانهم منها، وهى نعمة تيسير وسائل السفر، ومنحهم الأمان والاطمئنان خلاله؛ إلا أنهم – لشؤمهم، وضيق تفكيرهم، وشقائهم – تضرعوا إلينا

وقالوا: يا ربنا اجعل بيننا وبين القرى المباركة مفاوز وصحاري متباعدة الأقطار بدل تلك القرى العامرة المتقاربة، فهم – كما يقول صاحب الكشاف -: بطروا النعمة وبشموا(أي: سئموا) من طيب العيش، وملُّوا العافية، فطلبوا النكد والتعب، كما طلب بنو إسرائيل البصل والثوم مكان المن والسلوى”15.

{وظلموا أَنفُسَهُمْ} “أي: قالوا ذلك القول السيئ، وظلموا أنفسهم بسببه، حيث أجيب دعاؤهم فكان نقمة عليهم، لأنهم بعد أن كانوا يسافرون بيسر وأمان؛ صاروا يسافرون بمشقة وخوف.

وقوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} بيان لما آل إليه أمرهم.

والأحاديث: جمع أحدوثة، وهى ما يتحدث به الناس على سبيل التلهي والتعجب، أي: قالواما قالوا من سوء، وفعلوا ما فعلوا من منكر، فكانت نتيجة ذلك أن صيرناهم أحاديث يتلهّى الناس بأخبارهم، ويضربون بهم المثل، فيقولون: تفرقوا أيدي سبأ، {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} في البلاد المتعددة، فمنهم من ذهب إلى الشام، ومنهم من ذهب إلى العراق بعد أن كانوا أمة متحدة يظلها الأمان والاطمئنان، والغنى والجاه.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ} الذى فعلناه بهم بسبب جهلهم وفسوقهم وبطرهم {لآيَاتٍ} واضحات بينات {لِّكُلِّ صَبَّارٍ} على طاعة الله – تعالى – {شَكُورٍ}له – سبحانه – على نعمه”16.نعم:

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}17، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }18

أيها المسلمون: إن هذا الذي حلَّ بأولئكم القوم من قبل، وقصَّه الله علينا؛ هو بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، وهو أثر وعاقبة طغيانهم وبطرهم، وعدم شكر الله على ما أنعم به عليهم، فنستفيد من هذا الدرس أن الله – تعالى – ما ينزل علينا كارثة أو مصيبة إلا ونكون نحن السبب في ذلك بذنوبنا ومعاصينا وأخطائنا، ولهذا سنستعرض في هذه الخطبة بعض آثار وعواقب الذنوب والمعاصي التي تسبب ضعف المسلمين، وذهاب ريحهم، وسقوط كلمتهم أفراداً وجماعات ودوَلاً؛ حتى لا نقع فيها، وقبل أن ينزل بنا أكثر مما نزل بنا، وكذلك علَّ الله أن يرفع عنا ما قد نزل بنا من المصائب والكوارث، فهي تمحيصات وابتلاءات يبتلي عباده ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون.

أيها المسلمون: إن من أعظم ما يضعف دين المسلم نسيانه ذكر ربه – تعالى – قال الحق – سبحانه -: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }19 أي: ينسيك الله مصلحة نفسك في الدنيا والآخرة، فلا تعمل لنفسك ما يسعدها في الدنيا، وينجيها في الآخرة، فيجعلك خادماً للآخرين يوجهونك ويصرفونك على ما يريدون لتحقيق أهدافهم الشريرة، ولربما أغروك ببعض الأموال فتكون لهم كالشاة العجماء تبذل لهم عمرك الغالي، ووقتك وأهلك، وتضحي بنفسك، وتفرط في دينك، وأوامر ربك؛ ثم هم يكسبون أغراضهم ومآربهم منك، وفجأة يأتيك ملك الموت وإذا به بين يديك، فتنظر يميناً

ويساراً، كل الذين يحيطون بك فقراء، ضعفاء، لا يملكون لك ضراً ولا نفعاً، يا إلهي ما هذا هل انتهت حياتي؟ وانقضى عمري؟ إنني لم أعبد الله بعد، كم صلوات ضيعتُها، كم مسلم ظلمتُه، كم من مصيبة ارتكبتها، رب أخرني إلى أجل قريب، يا رب: سنة واحدة، شهراً واحداً، أسبوعاً أتفرغ لعبادتك، أقرأ كتابك، أستغفر من ذنوبي، يا رب يوماً واحداً! ولن أعصي لك أمراً، لن أستجيب لأحد في معصيتك، لا أدعو أحداً غيرك، لن أخاف من أحد سواك، يا رب: ساعة واحدة، لحظة واحدة أسجد لك فيها إلى أن أموت {فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}20، {وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}21،

تريد الآن أن ترجع لتدارك دينك، لتطيع ربك، لترد مظالم الناس عندك، أين أذهبتَ قوتك؟ أين أفنيتَ شبابك؟ أين ضيعت عمرك؟ {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}22، فانتبه لدينك أيها المسلم قبل حلول تلك الساعة فإن الأمر خطير، والدنيا لا تدوم،والحق سبحانه حي قيوم، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

جاء في الحديث الصحيح أن الله – تعالى – يقول للعبد يوم القيامة: ((ألم أزوجك، ألم أكرمك، ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى. فيقول الله – تعالى -: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا. فيقول الله: اليوم أنساك كما نسيتني))23نعم ((اليوم أنساك كما نسيتني)).

أيها المسلمون: كذلك من الذنوب التي تضعف دين المسلمين، وتوهن قوتهم؛ الفرقة والنزاع بينهم، وإننا لنعلم جميعاً أن من أوائل الأعمال التي قام بها الرسول الكريم   عند هجرته إلى المدينة هي المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ لعلمه بأن هذا الدين لن يقوم إلا على عواتق رجال كلمتهم واحدة، وصفهم واحد، لا تعيش فيهم الضغائن والأحقاد، ولا تغزوهم النزاعات والشحناء، فكان بذلك الصحابة – رضوان الله عليهم – كما وصفهم الله {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}24، وقد حذر الله – تعالى – أوليائه المؤمنين من هذا الداء الخطير (النزاع والفرقة) فقال سبحانه: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}25، وأخبرنا – سبحانه – أن من أعظم أسباب العداوة والبغضاء بين الناس – وبين المسلمين خاصة – هو نسيان توحيد الله، ونسيان ميثاق الله الذي أخذه على عباده فقال – تعالى-: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}26

قال الإمام البغوي: “أخذنا ميثاقهم في التوحيد والنبوة، {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} بالأهواء المختلفة، والجدال في الدين”27؛ فإذا ما نسي المؤمنون توحيدهم، ووالوا عدوهم على إخوانهم، وعصوا ربهم؛ جعل الله بأسهم بينهم شديداً، ثم لم ترتفع لدينهم راية، وكان ذلهم للناس عبرة وآية، {جَزَاء وِفَاقًا}28، قال الله – تعالى -: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}29.

والله – تعالى – يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}30 فإذا عصى المسلم ربه، ونسي ذكره؛ ضعف من دينه شيء؛ فعادى أخاه وظلمه، واختلّ عنده ميزان الحكم على الناس، فيتكبر الغني على الفقير، والقوي على الضعيف، والرئيس على الرعية، وتتكبر صاحبة الجمال على أختها، وصاحبة المال على زميلتها، لماذا؟ {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}لم يراجعوا دينهم، لم يعملوا بأمره، ولم ينتهوا عن نهيه، ولم يسألوا عن مراده، وعصوا ربهم؛ فلعب الشيطان بهم.

أيها المسلمون: وإن مما يضعف دين المسلمين كثرة الترف والإسراف، وبطر النِعَم وعدم شكر المنعِم قال – تعالى -: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}31، ولهذا تجشأ رجل عند النبي   فقال له : ((إن أكثر الناس شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة))32، أما أكمل الناس ديناً   فكان يمرُّ عليه الشهر والشهران والثلاثة لا يوقد في بيته نار، وإنما كان طعامه الأسودان: التمر والماء، فلما فتح الله عليه وعلى أصحابه لم يبطروا ولم يأشروا، بل حمدوا وشكروا.

ألا واعلموا أيها المسلمون أن الترف يقضي على الأخلاق، ويهدم الفضائل، فيكون ذلك سبب لضعف الدين، وعدم توقير أوامر رب العالمين، فتحل الكارثة، وتقع المصيبة، وينزل الجزاء {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ}33، وهذه هي نهاية المترفين المتكبرين بأموالهم، الذين لم يشكروا ربهم على ما آتاهم من فضله.

بل إن الترف أيها المسلمون سبب رئيس، وطريق ممهد، ووسيلة سهلة لهلاك الأمم، وحلول العقوبة، وسقوط الدول قال الحق سبحانه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراًً}34، نعم: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} قال المفسرون: بطاعة الله وتوحيده، وتصديق رسله، واتباعهم فيما جاؤوا به {فَفَسَقُواْ} أي: خرجوا عن طاعة أمر ربهم، وعصوه وكذبوا رسله، {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} أي: وجب عليها الوعيد {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}35، وقال – تعالى -: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }36.

واعلم أيها الأخ المسلم الحبيب أنني عندما أحذر نفسي وإياك من عصيان الله – جل وعلا-، وأحثك على التمسك بدينك؛ أن هذا من أبلغ النصح، وأتم المحبة، وأعظم الإشفاق، لأن الله – عز وجل – قد حذر أحب الخلق إليه، وأقربهم منه – صلى الله عليه وسلم -، وهو سيد الطائعين، حذره أن يعصيه، أو يخالف أمره، ويطيع عدوه فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}37 ، وقال – تعالى – لنبيه يحي: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}38.

فبادر أخي بذكر ربك، ومراجعة دينك، وانظر ماذا قدمت لذلك اليوم قبل أن يرمي بك الله في وديان الدنيا، ثم لا يبالي بك في أي واد هلكت، واجعل بينك وبين معاصي الله وقاية، فإن غلبك الشيطان والهوى أحياناً فبادر بالتوبة إلى ربك، فهو قريب مجيب.

أخي المسلم أختي المسلمة: ألم يقل الله – تعالى -: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}39، ونحن في هذا الزمن نعيش أعظم الفتن، وأكبر البلايا، فتن الشهوات في كل مكان: النساءوالأموال والمناصب وغير ذلك، وفتن الشبهات والأفكار الدخيلة، والمعتقدات الغريبة، والعادات الغربية الوافدة، فعند هذا كله ألا نستعين بالله على هذه الفتن، ونلتجئ إليه أن يعيذنا منها كما كان يدعو – صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون))40، وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال : كان النبي   يكثر أن يقول: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)) قال: فقلنا يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: فقال: ((نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله – عز وجل-  يقلبها))41، وفي التنزيل: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}42 قال مجاهد: المعنى يحول بين المرء وعقله حتى لا يدري ما تصنع بنانه”، فالله الله في حفظ دينكم أيها المسلمون في هذا الزمن الخطير.

اللهم ثبت قلوبنا على دينك، واختم أعمارنا بطاعتك، يا رحمن يا رحيم.


1 سورة الأنبياء (23).

2 سورة الأنعام (18).

3 سورة سبأ (15-19).

4 تفسير القرطبي (14/283).

5 فتح القدير (4/455).

6 سورة سبأ (15).

7 فتح القدير (4/455).

8 سورة سبأ (16).

9 سورة المدثر (31).

10 فتح القدير (4/455).

11 الوسيط لسيد طنطاوي (1/3469).

12 بتصرف من الوسيط لسيد طنطاوي (1/3469-3470).

13 الوسيط لسيد طنطاوي (1/3470).

14 تفسير ابن كثير دار طيبة (6/508-509).

15 الوسيط لسيد طنطاوي (1/3470).

16 الوسيط لسيد طنطاوي (1/3471).

17سورة الأعراف (96).

18سورة الرعد (11).

19 سورة الحشر (19).

20 سورة يونس (49).

21 سورة المنافقون (11).

22 سورة فاطر (37).

23 رواه مسلم برقم (7628).

24 سورة المائدة (54).

25 سورة الأنفال (46).

26 سورة المائدة (14).

27 تفسير البغوي (3/32).

28 سورة النبأ (26).

29 سورة الشورى (30).

30 سورة الحجرات (10).

31 سورة النحل (112).

32 ابن ماجة برقم (3351)، وحسنه الألباني في الصحيحة برقم (343).

33 سورة القصص (81).

 34سورة الإسراء (16).

35 أضواء البيان (3/75).

36 سورة الأعراف (165).

37 سورة الأحزاب (1).

38 سورة مريم (12).

39 سورة الزمر (53).

40 الترمذي برقم (3233) عن ابن عباس – رضي الله عنه -، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (59).

41 أحمد برقم (12128)، وقال شعيب الأرناؤوط في تعليقه على المسند: إسناده قوي على شرط مسلم.

42 سورة الأنفال (24).