التخصص وتنميته

 

 

التخصص وتنميته

كثيراً ما يتمتع الناس بأمور تخصهم عن غيرهم، فيبرزون في ذلك الشأن، مع مشاركة غيرهم لهم بنسبة أقل مما هم عليه، ولا بد أن يستغل الإداريون القائمون على أي مؤسسة أو أي عمل تلك الخصائص، فعليهم الحفاظ على تلك الميزة من الذهاب والضياع، ثم عليهم تنميتها ليصير لها الأثر الفاعل في المجتمع، ثم التشجيع والتحفيز بأنواع المحفزات التي تدفع بذلك الشخص إلى الأمام.

وينبغي على مدراء المساجد وأنشطتها أن يعلموا أن لدى العاملين والطلاب في مساجدهم امتيازات كثيرة لا بد من استغلالها، فطالب يجيد فن الإقناع العقلي والعاطفي، وآخر يجيد حسن معاملة الناس وجذبهم، وطالب آخر يحسن الخطابة والإلقاء، وآخر مغرم بالرياضة والسباحة، وآخر يجيد الخط والكتابة، وآخر يفكر في الإبداع والاختراع.. إلخ.

وأن يوجهوا كل فرد إلى ما يتقنه؛ حتى يبدع فيه ويكون نافعاً لنفسه ولمجتمعه ولأمته، ولا ينبغي أن يكلف الفرد أمراً لا يتقنه إرضاء لرغبة المدير وجهله بحقائق الأمور، أو كونه مستبداً قاسياً لا يحب إلا تنفيذ الأوامر دون النظر إلى ما هو الأصلح للشخص المعين!.

فكم من طاقات ومواهب ضيعت بسبب ضعف الإرادات والإدارات في تحسين الأوضاع، وبسبب الجهل بأهمية ذلك الفرد في المجتمع.. وإذا نظرنا إلى حال رسول الله   لوجدنا أنه كان يوجه كل فرد من أصحابه إلى ما يجيده ويتقنه، فبلال كان مؤذنه الرسمي لأنه أندى صوتاً من غيره، فكانت له مهارة الصوت الحسن وتأثيره في جموع الناس، فلم يعط الأذان لأبي بكر مع أفضليته؛ لكونه   يعلم أن بلالاً أندى صوتاً وأحسنه. وكان أمين سر النبي   حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-، وكان زيد بن ثابت -رضي الله عنه- أعلم الصحابة بالفرائض.. وقد نبغ كثير من الأئمة في علوم معينة وخبرات نادرة مع أخذهم من العلوم الأخرى بالقدر اليسير، فالإمام الشافعي -رحمه الله- كان فقيهاً، ولم يعثر عنه التعمق في علم الحديث، والإمام أحمد –رحمه الله- اشتهر بالحديث والكلام في رجال الحديث وكان في مسائل الفقه وتفريعاته أقل حظاً من الشافعي، بل قبل ذلك نجد من الصحابة -رضي الله عنهم- من لم يروِ عن رسول الله   إلا حديثاً أو حديثين أو ثلاثة لكنه نبغ وتخصص في مجال آخر كخالد بن الوليد -رضي الله عنه- حيث كان يدير رحى الحروب، وأبو بكر الصديق -رضي الله عنه- أحاديثه في الصحيحين والسنن والمسانيد قليلة بالنسبة لما روى أبو هريرة -رضي الله عنه-، وهكذا، لو تتبعنا تاريخ المسلمين واستقرأناه لوجدنا أن الجهابذة والعلماء والأذكياء والمبدعين قد نبغوا في فن وتخصص معين، به اشتهروا، وله أتقنوا، وفي أغلب جزئياته أبحروا، فعلى بذلك صيتهم، وارتفع شرفهم، -رحمة الله عليهم-.

ومع أن التخصص لم يكن بارزاً بالمعنى الذي هو عليه اليوم، إلا أنه ظهر من خلال اهتمام كل واحد منهم بمجال معين، وقلَّ أن يجمع إنسان بين علوم كثيرة، ومهارات شتى، وفنون عديدة فيتقنها، ولا تكون هذه إلا للنبلاء وأعظمهم محمد رسول الله   ثم من جاء بعده من عظماء الأمة وعلمائها، كعبد الله بن المبارك –رحمه الله- فقد جمع أموراً كثيرة عجز عن أمثالها كثير ممن سبقه وأتى بعده، فقد جمع الفقه والحديث والزهد والعبادة والجهاد والإنفاق وله في كل علم وعمل مجال، ومن هؤلاء الذين تكرم الله عليهم بفضله الذي يؤتيه من يشاء: شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد كان اآية من آيات الله في كل مجال: في علم الحديث وعلم الفقه والزهد والعبادة والجهاد وعلم النفس وعلم السلوك وعلم الفلك وعلم الأرض وعلم الكواكب وعلم الطب، فسبحان من وهب ما يشاء من النعم والفضل لمن يشاء من عباده! وكتاب ابن تيمية مجموع الفتاوى يدل على ذلك، فمن أراد إدراك صدق ما قلناه فليقرأ كتابه الفتاوى فسيجد العجب العجاب!

وتعود ضرورة التخصص في زماننا إلى تعدد أنواع العلوم والمهارات والمهن، وإلى كثرة الشواغل اليومية، والصوارف التي تصرف الإنسان عن الإحاطة بكل فن، وكذلك كثرة التفريعات المتأخرة في العلوم..

فما على المدراء والقائمين على المساجد والأعمال المختلفة إلا التنبه لأهمية هذاالأمر ودراسة ميول الطلاب والعاملين تحت إشرافهم ليوجه كل فرد إلى ما يتقن؛ حتى ينبغ في ذلك المجال، ويقدم للمجتمع الخير الكثير..

إن عاقبة إهمال تلك القدرات والميول غير مرضية، ذلك لما يسببه من تدمير للطاقات،وإذابة للقدرات، وإهدار للتميز، وبالتالي سيؤدي إلى تخلف الأمة على كافة المستويات، وسنظل في دوامة التخلف والجهل والتبعية للغير..

نسأل الله أن يرفع الأمة المحمدية إلى المكانة التي يرضاها، وأن يولي علينا أخياراًصالحين يقودون العباد إلى الخير العميم، ويحفظون البلاد من كل كفار أثيم..

وصلى الله على محمد رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.