ففروا إلى الله

ففروا إلى الله

 

الحمد لله رب العالمين، منّ على عباده فخلقهم، ثم كرمهم وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، محمد وعلى آله وصحبه صلاة وسلاماً دائماً كثيراً، أما بعد:

أيها المسلم الحبيب: حياك الله وبياك في هذا اللقاء الأخوي الطيب.

أيها الأخ الحبيب: إننا في هذه الدنيا – وبخاصة هذا الزمن – نعيش في صراع لا ينتهي إلا بالموت، ولا ينقضي إلا بانتهاء هذه الحياة الدنيا، ولقد ذكر الله – سبحانه – هذه السنة الكونية في كتابه الكريم فقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}1 "في مكابدة ومشقة، وجهد وكد، وكفاح وكدح كما قال في السورة الأخرى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}2.

فإن الخلية الأولى لا تكاد تستقر في الرحم حتى تبدأ في الكبد والكدح والنصب؛ لتوفر لنفسها الظروف الملائمة للحياة والغذاء بإذن ربها، وما تزال كذلك حتى تنتهي إلى المخرج، فتذوق من المخاض إلى جانب ما تذوقه الوالدة، وما يكاد الجنين يرى النور حتى يكون قد ضُغط ودُفع حتى كاد يختنق في مخرجه من الرحم.

ومنذ هذه اللحظة يبدأ الجهد الأشق، والكبد الأمرّ؛ حين يبدأ الجنين ليتنفس هذا الهواء الذي لا عهد له به، ويفتح فمه ورئتيه لأول مرة؛ ليشهق ويزفر في صراخ يشي بمشقة البداية، وتبدأ دورته الهضمية في العمل على غير عادة، ويعاني في إخراج الفضلات حتى يروض أمعاءه على هذا العمل الجديد، وكل خطوة بعد ذلك كبد، وكل حركة بعد ذلك كبد.

والذي يراقب الوليد عندما يَهِمُّ بالحبو، وعندما يَهمُّ بالمشي؛ يُدرك كم يبذل من الجهد العنيف للقيام بهذه الحركة الساذجة.

وعند بروز الأسنان كبد، وعند انتصاب القامة كبد، وعند الخطو الثابت كبد، وعند التعلم كبد، وعند التفكر كبد، وفي كل تجربة جديدة كبد، فتجربة الحبو والمشي سواء!

ثم تفترق الطرق، وتتنوع المشاق؛ هذا يكدح بعضلاته، وهذا يكدح بفكره، وهذا يكدح بروحه، وهذا يكدح للقمة العيش وخرقة الكساء، وهذا يكدح ليجعل الألف ألفين، وعشرة آلاف، وهذا يكدح لملك أو جاه، وهذا يكدح في سبيل الله، وهذا يكدح لشهوة ونزوة، وهذا يكدح لعقيدة ودعوة، وهذا يكدح إلى النار، وهذا يكدح إلى الجنة، والكل يحمل حمله، ويصعد الطريق كادحاً إلى ربه فيلقاه، وهناك يكون الكبد الأكبر للأشقياء، وتكون الراحة الكبرى للسعداء.

إنه الكَبَدُ طبيعة الحياة الدنيا، تختلف أشكاله وأسبابه، ولكنه هو الكبد في النهاية، وأخسر الخاسرين هو من يعاني كبد الحياة الدنيا لينتهي به إلى الكبد الأشق الأمرّ في الأخرى، وأفلح الفالحين من يكدح في الطريق إلى ربه ليلقاه بمؤهلات تنهي عنه كبد الحياة، وتنتهي به إلى الراحة الكبرى في ظلال الله"3

فأخبرني أيها الإنسان الضعيف العاجز في خضم هذا الكبد والكدح المتواصل، وفي خضم هذه الفتن المتلاطمة، إلى أين ستفر؟ ومن سيؤويك؟ من سيسمع همومك؟

وإلى من ستفر من هموم الدنيا وأحزانها، وتعبها ونصبها، ومشاكلها وأتراحها؟ إلى أين ستفر من شيطانك الذي لا يكلُّ ولا يتعب من إضلالك وإفسادك وإغوائك؟ إلى من ستفر من نفسك الأمارة بالسوء التي تزين لك الباطل وتحسنه، وتميل إلى الراحة والدعة، وتكسل عند عبادة للرحمن، ومناجاة الواحد الديان، فإذا مشيت إلى معصية أو طغيان، لا بل لو فكرت في ذلك مجرد تفكير؛ اهتزت نفسك، وقامت كأنها نشطت من عقال، تزين لك الشر وتفرحك به، وتدلك عليه حتى تجعلك إليه جزوعاً، وعن الخير منوعاً، فمن سيحميك منها؟ ومن سيحصنك؟

رفقاء السوء، وأصدقاء الباطل، وأصحاب المنكر الذين يجرونك إلى الهاوية جراً، يحرجونك عن فعل الطاعة، ويسوقونك إلى طرق الرذيلة، إلى مقاهي الهوى، وأرصفة الزور، يشجعونك على ارتكاب المحرمات، والمغامرة في مستنقع المخدرات والمسكرات، على النظر إلى العاريات المتهتكات، وقد تكون أنت طيب النفس، سليم الصدر، كريم الأخلاق، عالي الهمة، متوقد الذهن ذكاءً وفطنة ونجابة، طاهر القلب، رحيماً رفيقاً على والديك وأهلك وإخوانك، لكنهم يسحبونك خطوة خطوة، إشارة من بعيد، ابتسامة ساحرة، كلمة حارة بالمشاعر، لقاء سريع تتدفق فيه مشاعر الحب، وتتسابق فيه عبارات التقدير والاحترام، وفيها يدعوك لجلسة أخوية تعارفية ودية لا غير، تشربون الشاي، وتتبادلون أطراف الكلام، ومن هنا يبدأ الصياد الماكر بتطعيم فريسته، إما بوضع حبة مخدر أو.. أو.. أو غيرها من شِباك الماكرين، وخدع الذئاب والساقطين.

فيا أيها الأخ المسكين: أين ستفر من كل هؤلاء؟ أين المفر؟

أيها الأخ الحبيب: كأني بربك يناديك وأنت وسط هذه المعمعة، يدعوك إلى الهروب السريع من هؤلاء، إلى الفرار لكن إلى أين؟ إليه سبحانه، فرّ إليه واهرب، افزع إليه، ولا تلتفت إلى الوراء فيضيع وقتك، اسمع ندائه السماوي لك – أيها الإنسان – وهو يقول: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}4، عند ذلك أيها الإنسان إن أطعتَ ربك ففررت إليه، وسعيت نحوه، وانخلعت من كل قوة أو جاه أو رياسة أو منصب أو قبيلة؛ لتعلن فقرك وعجزك وضعفك بين يديه:{لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}

إليك وإلا لا تشد الركائب                   ومنك وإلا فالمؤمل خائبُ

وفيك وإلا فالغرام مضيّـع                   وعنك وإلا فالمحدث كاذبُ

عند ذلك ستجد الرعاية الإلهية، والفتح الرباني، والتأييد العاجل، والنصر القريب، والفرج والسعادة والهناء {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}5 ينصرهم، ويعينهم، يؤيدهم ويوفقهم، يدافع عنهم وينجيهم من المهالك، يكتب لهم القبول في قلوب عباده ويخفف آلامهم، ويداوي جراحهم ويُطمئنُ قلوبهم، وينزل عليهم السكينة والوقار، ويطعمهم لذة عبادته، ويسعدهم في هذه الدنيا، ويرفع شأنهم في الآخرة {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}6، {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}7، {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}8.

فهيا أخي فرّ إلى ربك، إلى طاعته وعبادته، إلى دعائه ورجائه، إلى تلاوة كتابه والتفكر في آياته، والاستعانة بحوله وقوته {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}9.

والحمد الله رب العالمين.


1 سورة البلد (4).

2 سورة الانشقاق (6).

3 في ظلال القرآن بتصرف (8/40).

4 سورة الذاريات (50).

5 سورة النحل (128).

6 سورة الحج (38).

7 سورة طه (46).

8 سورة التوبة (40).

9 سورة الذاريات (50).