شهر الله المحرم دروس وعبر

 

 

شهر الله المحرم دروس وعبر

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

إن من نعم الله – تبارك وتعالى – على عباده، أن يوالي مواسم الخيرات عليهم ليوفيهم أجورهم، ويزيدهم من فضله، فما أن انقضى شهر رمضان المبارك حتى أتت الست من شوال، ثم جاء موسم الحج المبارك، ثم انقضى وتبعه شهر كريم هو شهر الله المحرم، ونذكر هنا بعضاً من فضائله وأحكامه:

أولاً: حرمة شهر الله المحرم:

فإن شهر الله المحرّم شهر عظيم مبارك، وهو أول شهور السنة الهجرية، وأحد الأشهر الحُرُم التي قال الله – تبارك وتعالى – فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ، وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}1، وعن أبي بكرة – رضي الله عنه – عن النبي   قال: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان))2 قال الإمام القرطبي – رحمه الله -: “خص الله – تعالى – الأشهر الحرم بالذكر،ونهى عن الظلم فيها تشريفاً لها، وإن كان منهياً عنه في كل الزمان كما قال – تعالى –: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَج}3، وعلى هذا أكثر أهل التأويل أي: لا تظلموا في الأربعة أشهر الحرم أنفسكم، وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس – رضي الله عنه – قال: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُم} في الاثني عشر”4، وقال ابن كثير – رحمه الله -: “وقد اختلف العلماء في تحريم ابتداء القتال في الشهر الحرام هل هو منسوخ أو محكم على قولين:

الأول وهو الأشهر: أنه منسوخ لأنه – تعالى – قال هاهنا: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} وأمر بقتال المشركين، وظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك أمراً عاماً، ولو كان محرماً في الشهر الحرام لأوشك أن يقيده بانسلاخها، ولأن رسول الله   حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة كما ثبت في الصحيحين.

والقول الثاني: إن ابتداء القتال في الشهر الحرام حرام، وأنه لم ينسخ تحريم الشهر الحرام لقوله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ}5, ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم كما قال الله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}67.

ثانياً: فضل شهر الله المحرم:

عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله  : ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل))8، وروي بلفظ: سئل أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ وأي الصيام أفضل بعد شهر رمضان؟ فقال: ((أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم))9، وقال المباركفوري – رحمه الله -: “فإن قلت: قد ثبت إكثار النبي   من الصوم في شعبان، وهذا الحديث يدل على أن أفضل الصيام بعد صيام رمضان صيام المحرم فكيف أكثر النبي   منه في شعبان دون المحرم؟ قلت: لعله لم يعلم فضل المحرم إلا في آخر الحياة قبل التمكن من صومه، أو لعله كان يعرض فيه أعذار تمنع من إكثار الصوم فيه كسفر ومرض وغيرهما”10.

وعن عبدالله بن شقيق قال: قلت لعائشة – رضي الله عنها -: “أكان رسول الله   يصوم شهراً كله؟ قالت: ما علمته صام شهراً كله إلا رمضان، ولا أفطره كله حتى يصوم منه حتى مضى لسبيله  “11.

ومن فضله أن فيه يوم عاشوراء الذي كان النبي   يتحرى صيامه كما روي ذلك عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: “ما رأيت النبي  يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر (يعني شهر رمضان)”12؛ قال ابن حجر – رحمه الله -: “هذا يقتضي أن يوم عاشوراء أفضل الأيام للصائم بعد رمضان، لكن ابن عباس – رضي الله عنه – أسند ذلك إلى علمه، فليس فيه ما يرد علم غيره، وقد روى مسلم من حديث أبي قتادة مرفوعاً أن صوم عاشوراء يكفر سنة، وأن صيام يوم عرفة يكفر سنتين، وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام عاشوراء، وقد قيل في الحكمة في ذلك: إن يوم عاشوراء منسوب إلى موسى – عليه السلام -، ويوم عرفة منسوب إلى النبي  ، فلذلك كان أفضل”13.

ومما ورد في فضله قول النبي   كما في حديث قتادة – رضي الله عنه -: ((صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله))14؛ ومما رود في فضل هذا الشهر أنه حصل فيه حدث عظيم, ونصر مبين، أظهر الله فيه الحق على الباطل؛ حيث أنجى فيه موسى – عليه السلام – وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فهو يوم له فضيلة عظيمة، ومنزلة قديمة، روى ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قدم النبي   المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: ((ما هذا ))، قالوا: هذا يوم صالح هذا يوم نجى الله نبي إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال: ((فأنا أحق بموسى منكم)) فصامه وأمر بصيامه”15, وعن عبدالله بن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله  : ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع، وفي رواية أبي بكر قال: يعني يوم عاشوراء))16, قال صاحب عون المعبود: ” قال الشافعي, وأصحابه, وأحمد, وإسحاق, وآخرون – رحمهم الله -: “يستحب صوم التاسع والعاشر جميعاً لأن النبي   صام العاشر ونوى صيام التاسع, قال بعض العلماء: ولعل السبب في صوم التاسع مع العاشر أن لا يتشبه باليهود في إفراد العاشر”17.

الحكمة من صيامه:

الإكثار من الصيام في شهر الله المحرم, وصيام يوم عاشوراء اقتداءً بالنبي  ، وذلك لأن النبي   صامه وحث على صيامه, وكذا جعل الله – عز وجل – في صيامه فضلاً عظيماً، وذلك لكونه يكفر سنة ماضية وسنة لاحقة, وهذا من فضل الله – تبارك وتعالى – ورحمته لأن أعمار هذه الأمة قصيرة, وكذلك من الحكمة فيه الحرص على مخالفة أهل الكتاب، ولذا أمر النبي   بمخالفتهم لأنهم كانوا يصومون العاشر فقال : ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع)), وقد تقدم هذا الحديث.

هذا ما تيسر جمعه في هذا المقام، ونسأل الله – تبارك وتعالى – أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل, وأن يجنبنا الزلل في القول والعمل، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


1 سورة التوبة (36).

2 رواه البخاري في صحيحه برقم (4385).

3 سورة البقرة (197).

4 تفسير القرطبي (8/122).

5 سورة المائدة (2).

6 سورة البقرة (194).

7 تفسير ابن كثير (2/465).

8 رواه مسلم في صحيحه برقم (1163).

9 رواه مسلم في صحيحه برقم (1163).

10 تحفة الأحوذي (3/368).

11 رواه مسلم في صحيحه برقم (1156).

12 رواه البخاري في صحيحه برقم (1902).

13 فتح الباري للحافظ ابن حجر (4/249).

14 رواه مسلم في صحيحه برقم (1162).

15 رواه البخاري في صحيحه برقم (1900).

16 رواه مسلم في صحيحه برقم (1134).

17 عون المعبود (7/77).