شرف تعلم القران وتعليمه

 

 

شرف تعلم القران وتعليمه

الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبده الكتاب ولم يجعل لهُ عوجاً، قيّماً لِيُنذِرَ بأساً شديداً من لدُنه، ويُبشرَ المؤمنين الذين يعملون الصالحات أنَّ لهم أجراً حسناً، ماكثين فيه أبداً، ويُنذرَ الذين قالوا اتخذَ الله ولداً، ما لهم به من علم ولا لآبائهم كَبُرَت كلمةً تخرجُ من أفواههم إن يقولون إلا كَذِباً.

وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريكٌ في الملكِ، ولم يكن له وليٌّ من الذُّل وكبرهُ تكبيراً، وأشهدُ أنّ سيدنا محمداً عبدُ الله ورسولُهُ، وصفيه من خلقه وخليله، بعثهُ ربُّهُ مُبَشّرِاً ونذيراً، وهادياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبشّر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً، وأنذر الكافرين من النار ساءت مستقراً ومصيراً، فالصلاةُ والسلام عليك يا رسول الله، الصلاة والسلام عليك يا حبيب الله؛ عدد حبّات المطر، وعدد أوراق الشجر، وعدد أنفاس أهلِ الجنة، وكلما ذكَرَكَ الذاكرون، وغفل عن ذكرك الغافلون، أما بعد:

عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأنهاكم ونفسي عن عصيانه ومخالفة أمره ونهيه فان الله – تعالى – يقول في محكم التنزيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}1.

أيها الكرام:

لا يخفى على كل فرد منكم ما يتبوأه العلم والتعليم في الإسلام من درجة عظيمة، ومرتبة سامية كبيرة، ترتفع به الأقدار، وتحاز به المغانم الكبار؛ يقول الله – جلّ وعلا – في محكم كتابه: {يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَـٰتٍ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}2، قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: “العلماء فوق المؤمنين مئة درجة، ما بين الدرجتين مئة عام”3، وقال وهب بن منبه: “يتشعب من العلم الشرفُ وإن كان صاحبه دَنِيّاً، والعزُّ وإن كان صاحبه مهيناً، والقرب وإن كان قصيّاً، والغنى وإن كان فقيراً، والمهابة وإن كان وضيعاً”4.

والعلم طريق إلى الجنة معبد، ودرب للفلاح ممهد أخبر بذلك المصطفى   عندما قال: ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنّة))5.

وفضل العلم حقيقة، وشرفه أمهر وأشهر من أن يذكر، وأوضح من أن ينكر، ويكفي في ذلك النظر، وكيف لا يكون العلم بهذا الفضل وفيه حفظ دين الرسول، وكيف لا يكون بهذه المنزلة الرفيعة وبسببه يحصل كل خير مأمول.

إن العلم لنور يستضيء به العبد فيعرف كيف يعبد ربه، وكيف يعامل عباده، فتكون مسيرته في ذلك على علم وبصيرة.

ولقد حضت هذه الشريعة الغراء ودعت إلى تعلم العلم وتعليمه – إذ هو منبع كل فضيلة، ومنبت كل فسيلة – يقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم))6.

وإن من أشرف العلوم تعلماً وتحفظاً وتفهماً هو ما حث الله – عز وجل -، وحث رسوله  على تلاوته وتدبره وتعلمه، ورتب على ذلك المقامات الكريمة، والمنازل السامقة الرفيعة ذاك هو: القرآن الكريم الذي قال الله في أوصافه: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}7، وقال أيضاً: {الر * كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}8، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ }9.

وإذا كانت العلوم تفضل لأنها تخدم كتاب الله، فما بالك وأنت تتعلم هذا الأصل الأصيل، وهذا النور القويم الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}10.

عبادَ الله:

لقد أنعم الله – تبارك وتعالى – علينا بالقرآن العظيم الذي فيه نبأُ من قبلكم،وخبرُ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصلُ ليس بالهزل، من تَرَكَهُ تجبُّراً قصمهُ الله، ومن ابتغى الهدى في غيرِهِ أضلّهُ الله، هو حبلُ اللهِ المتين، ونورهُ المبين، والذكرُ الحكيم، وهو الصراطُ المستقيم الذي لا تزيغُ بهِ الأهواء، ولا تلتبسُ بهِ الألسنةُ، ولا تتشعّبُ معهُ الآراء، ولا يشبعُ منه العلماء، ولا يَمَلَّهُ الأتقياء، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تَنْتَهِ الجنّ إذ سَمِعَتْهُ أن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً}11، من عَلِمَ عِلْمَهُ سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عَمِلَ به أُجِر، ومن دعا إليه هدى إلى صراطٍ مستقيم”.

يقول ابن مسعود – رضي الله عنه -: “من أحب القرآن أحب الله ورسوله”، ويقول عثمان بن عفان – رضي الله عنه -: “لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم”.

تقرأ المصنفات، وتطالع المؤلفات؛ فإذا كتاب الله الأكمل والأجمل، تصادفك الشوارد، وتلهيك الفرائد؛ فإذا القرآن العظيم الأحسن والأنبل، يخاطب القلب فيخشع، والعين فتدمع، ولو نزل على جبل لتصدع يقول – جل شأنه -: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}12

أتى على سفر التوراة فانهزمت فلم يفدها زمان السبق والقـدم
ولم تقـم له للإنجيـل قائـمة كأنه الطيف زار الجفن في الحلم

فهو ِأشرف دستور، وأبهى نور، ولذا جاء الأمر بالاعتصام به يقول سبحانه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}13، وفي هذه الآية يأمُرُنا الله – تبارك وتعالى – أن نتمسك بحبل الله، وفي التفسير إنه القرآن، وإنما سمي به لأن المعتصم به في أمور دينه يتخلص به من عقوبة الآخرة، ونكال الدنيا، كما أن المتمسك بالحبل ينجو من الغرق والمهالك، ولذلك سماه النبي   عصمة فقال: ((إن هذا القرآن عصمة لمن اعتصم به))14، لأنه يعصم الناس من المعاصي.15

أيها المؤمنون:

إن الذي نلاحظه في أنفسنا والمسلمين عامة هو قلة الاهتمام بكتاب الله – عز وجل -،والإعراض عنه، والاستغناء بكتب البشر عن كلام رب البشر، واتسعت فجوة الصدود والإعراض إلا ممن رحم الله – وقليل ما هم -، وضعفت الهمم عن حفظ القران وتدبره، وكثرة المشاغل حتى بين طلبة العلم فلا تجد إلا القليل النادر ممن يحفظ القرآن، أو يحفظ بعضه، وإذا كلف أحدنا بحفظ شيء من القرآن استصعب ذلك حتى كأن جبال الدنيا على كاهله، ومعنى ذلك هزيمة الإسلام والمسلمين، وذهاب الإيمان، فوالله لا نصر ولا تمكين ولا عزة إلا بهذا القرآن، والله متى تركناه ونسيناه ابتلينا بكل خزيٍ، وفضيحةٍ في الدنيا والآخرة.

يقول أحد أعداء الإسلام: “من لي بمن يخرج القرآن من صدور أبناء الإسلام”، فيرد أحد الأشقياء ويقول: نأتي إلى المصحف فنمزقه: قال: “لا، لا ينفع، نريد أن نمزقه من قلوبهم، وقلوب أبنائهم”.

ويقول عدو آخر للإسلام: “ثلاث ما دامت عند المسلمين فلن تستطيعوا إخراجهم من دينهم: القرآن في صدورهم، والمنبر يوم الجمعة، والكعبة التي يرتادها الملايين من المسلمين، فإذا قضي على هذه قضي على الإسلام والمسلمين”،  ولذلك جاء أعداء الإسلام يهودٌ وأذنابهم من شيعة وباطنيين ورافضة؛ إلى القرآن فهونوا من شأنه، وقالوا: إنه مختلق، بل اِدَّعُوا نقصه وتحريفه {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}16، وأتوا إلى منبر الجمعة فأرادوا تعطيله؛ ليتحول إلى مناقشة قضايا تافهة لا تمت إلى الإيمان بصلة لكنهم يكيدون {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}.17

عباد الله:

لن نغض الطرف عن أمل يحمله الواقع في طياته، فهناك عودة حميدة من أبناء هذه الأمة وشبابها صوب القرآن، تبشر بفجر للإسلام قادم، وفخر للأمة ماثل، ولا أدل على  ذلك من انتشار حلق القرآن في شتى الأصقاع، ومختلف البطاح والبقاع من هذه المعمورة، لكن ما زال هذا العدد ضئيلاً إذا ما قارناه بأمة تعددها المليار والنصف، فلهولاء المتقاعسين ممن لم يكن لكتاب الله من حياتهم حظ ولا نصيب هذه الكلمات، عساها أن تحرك ما سكن، وتوقظ ما ركد ورقد؛ ليعودوا للنبع الصافي، والكتاب الهادي، وليجددوا عهدهم مع القرآن، وهي لأولئك الأشاوس الذين تشرفت حلق القرآن بانضمامهم إليها، ليواصلوا مسيرة الهدى بين أفياء القرآن، ومراتع كلام المنان أقول:

لقد أثنى الرب – سبحانه وتعالى – على من عاش مع كتابه فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ}18، وأولى نبيكم محمد    هذا القرآن عناية خاصة لمعلمه ومتعلمه، فجعل خير عباد الله معلم ومتعلم له جاء من حديث عثمان بن عفان – رضي الله عنه – أن النبي   قال: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))19، أتدري لمه؟ لأنهم التقوا على أشرف مائدة، ومع أقدس كتاب ألا وهو القرآن العظيم،فإذاً أشرف الوظائف بدلالة هذا الحديث هي الانشغال بتعليم القرآن وتعلمه، ومن أجل هذا الحديث قعد الإمام الجليل أبو عبد الرحمن السلمي أربعين سنة يقرئ الناس القرآن بجامع الكوفة مع جلالة قدره، وكثرة علمه، ولما سئل سفيان الثوري – رحمه الله – أيهما أفضل الجهاد أم تعليم القرآن؟ فقال: تعليم القرآن، واستدل بقوله  : ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)).

بل كان   يولي القرآن الكريم اهتماماً عظيماً جداً، وعلى هذا ربى أصحابه الغر الميامين – رضي الله عنهم -، وأول ما عمد إليه النبي   في إبلاغ دعوته الكبرى هو تعليم القرآن للداخلين في هذا الدين، فكان مبعوثوه إلى مختلف الجهات أول ما يقومون به إقراء الناس القرآن، وكتب النبي   لعمرو بن حزم حين وجهه إلى اليمن كتاباً أمره فيه بأشياء منها: أن يعلم الناس القرآن، ويفقههم فيه20،

وروى البخاري عن أبي إسحاق عن البراء قال: أول من قدم علينا من أصحاب النبي   مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم؛ فجعلا يقرئاننا ويحفظاننا القرآن، وكان الرجل من المسلمين إذا هاجر من المدينة دفعه النبي   إلى رجل من الحفظة ليعلمه القرآن”21، ولما فتح النبي   مكة ثم أراد الرجوع إلى المدينة؛ استخلف عتاب بن أسيد، وخلَّف معه معاذ بن جبل – رضي الله عنهما – يقرئهم القرآن، ويفقههم في دينهم.

وأوصى النبي   بإكرام أهل القرآن إكراماً خاصاً ومتميزاً، حتى إنه   سماهم اسماً ينبض بأعظم المعاني حيث سمى أصحاب القرآن وأهل القرآن “أهل الله وخاصته” جاء من حديث أنس – رضي الله عنه – أن النبي   قال: ((إن لله آهلين من الناس)) قيل: يا رسول الله، من هم؟ قال: ((أهل القرآن هم أهل الله وخاصته))22.

وكان النبي   كثيراً ما يميز بين الناس، ويرتبهم ترتيباً يخضع لحفظ كل منهم من القرآن الكريم، ففي إمامة الصلاة يقول: ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله))23، حتى عند دفن الموتى كان يقدم أكثرهم قرآناً، وعندما اختار أميراً على مجموعة من الصحابة – رضي الله عنهم – اختار ذلك الصحابي الذي كان يحفظ سورة البقرة وقال: ((أنت أميرهم))، وقال  : ((إن من إجلال الله – يعني: من علامات تعظيم الله سبحانه وتعالى وإجلاله – إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط))24، ففضل الاشتغال بالقرآن الكريم تعلماً وتعليماً لا يدانيه فضل.

وينبغي لنا يا كرام أن نتميز باهتمامنا بالقرآن العظيم لما شرف الله به حامله يقول النبي : ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين))25.

واسمع أي رتبة يحظى بها حامل كتاب الله – عز وجل – يقول النبي  : ((يقال لصاحب القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق ورتل فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها))26، وليس هذا فحسب بل إن الله – تبارك وتعالى – لا يحرق ولا يعذب بالنار صدراً وعى القرآن فعن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – عن النبي   قال: ((اقرءوا القرآن فإن الله – تعالى – لايعذب يوم القيامة قلباً وعى القرآن))27، فالله لا يعذب قلباً يعي القرآن الكريم يقول عبد الله: “وإن هذا القرآن مأدبة الله- أي: الوليمة، والضيافة التي جعلها الله لعباده – فمن دخل فيه فهو آمن، ومن أحب القرآن فليبشر”28، فإذا أردت أن تعرف منزلتك عند الله فاعرف منزلة القرآن في قلبك، إن كنت تسمع القرآن فتفرح به وتستأنس فاعلم أن الله يحبك، وإن كانت الأخرى فتلك علامة الشقاء، فإن القلب الذي لا يعي شيئاً من القرآن قلبٌ مخذول ملعون، محروم مغلوبٌ عليه.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “كل قلبٍ لا تشرق عليه شمس القرآن فهو قلبٌ ملعون، وكل نفسٍ لا تشرق عليها شمس هذا الدين فهي نفس ملعونة”، ويقول في كلمته المشهورة: “من اعتقد أنه سوف يهتدي بهدىً غير هدى الله الذي بعث به محمداً فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه، وله عذابٌ أليم” نسأل الله لنا ولك العافية والسلامة.

والقرآن – عباد الله – يغني صاحبه عن كل حسب ونسب جاء في بعض التفاسير لقول النبي  : ((من لم يتغن بالقرآن فليس منا))29 أن الإنسان إذا نال شرف القرآن فعليه أن يستغني به عما عداه، عليه ألا ينزل إلى مرتبة التنافس مع الناس في الدنيا، وألا يذل نفسه وقد حمل القرآن الكريم، وأن يكون عزيزاً، فالقرآن يغني صاحبه عن كل حسب ونسب، ويكفي أنك إذا شرفت بنيل إجازة من أئمة القراءة فقد حزت شرفاً عظيماً لا يدانيه شرف، ويكفي أنك تحمل سلسلة تتدرج من شيخك إلى شيخ شيخك، إلى التابعين، إلى الصحابة – رضي الله عنهم – إلى النبي  ، ثم إلى جبريل – عليه السلام -، ثم إلى رب العزة، فكأنه حبل طرفه عندك والطرف الآخر عند الله – عز وجل -، الله أكبر فهل يعلم أحد شرف ونسب أعظم من هذا النسب؟.

يا حاملي هذا القرآن تضلعـ وا ما أنتم وسواكم بسواء

ويقول   من حديث أبي أمامة الباهلي: ((اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه))30، وفي لفظ ((اقرءوا سورة البقرة وآل عمران، اقرءواالزهراوين فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أوكأنهما غيايتان، أو كأنهما فِرقان من طيرٍ صواف، تحاجان عن أصحابهما))31، فيا من أراد أن يستظل بذاك الظل في يوم الشمس والكرب والخوف؛ استظل بآيات الله -تبارك وتعالى -.

وها هو   يستثير الهمم؛ لتطلب الأجر والثواب من عند باريها فيقول: ((من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة،والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول {ألم} حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف))32 فعُدَّ يا عبد الله واقرأ واحتسب الأجر عند الله، فإنك تأتي يوم القيامة وقد نصب لك في الجنة سلماً بدرجات، يقول الله لك – بلا ترجمان -: ((اقرأ وارتق ورتل فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)) فمن كان يقرأ من القرآن كثيراً رقى حتى يصبح كالكوكب الدري في سماء الجنة، ثم هم على منازل، وهم درجات عند الله، والله بصيرٌ بما يعملون.

عباد الله: من حفظ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه، غير أنه لا يوحي إليه، لاحسد في الدنيا ولا في مناصبها ولا في أموالها إلا في تلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار، وفي صدقات توصلك إلى العزيز الجبار.

ومن تأمل حالنا وجد حقيقة تقصيرنا في الاهتمام بحفظ القرآن ومدارسته، فلا بد من عودة صادقة إلى كتاب الله – عز وجل – قبل أن يفوتنا قطار المكرمات والفضل، نسأل الله أن يشرفنا بحفظ كتابه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، قلت قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

عباد الله:

جاء في تفسير ابن أبي حاتم أنه   مر في سكة من سكك المدينة فسمع عجوزاً تقرأ وهي تردد من وراء الباب في الليل: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}33 تقف عندها وترددها وتقول: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}، والخطاب للرسول   فوضع رأسه يبكي ويقول: ((نعم أتاني، نعم أتاني))34.

أيها الكرام : هؤلاء العجائز فأين رجالنا من هذه العجوز في تدبرها وتهجدها وتلاوتها؟ أين الرجال، وأين شباب الأمة الذين أعرض الكثير منهم – إلا من رحم الله -عن معايشة هذا القرآن؟ إننا أمة خالدة، لا خلود لنا إلا بكتابنا العظيم، ولا بقاء لنا إلا بشريعة نبينا – صلى الله عليه وسلم -، فإن هجرناه وتركناه؛ ضعنا والله، وأخذتنا المبادئ الهدامة، واستولت علينا الأمم الحاقدة التي تحقد على بلادالمسلمين، وعلى شريعتهم ومقدساتهم، فلا ملجأ لنا إلا الله، ولا كافي لنا إلا الله، وأي حلٍ آخر فمعناه الخسارة والندامة، ولذلك يقول المستشرق المجري جولد زيهر كما أسلفنا: لا يستطيع أن يُغلب هؤلاء العرب ما دامت فيهم ثلاث – وهو يعني المسلمين فلا عروبة عن الإسلام، ولا إسلام إلا لمن أسلم وجهه لله -: صلاة الجمعة، والكتاب العظيم- كتاب الله -، وحرم القبلة الشريف، فإذا بقيت هذه الثلاث، بقينا إن شاء الله، إذا آمنا بشرع الله، وأسلمنا قيادنا لله – تبارك وتعالى -.

يا أيتها الأمة الخالدة!

يا أبناء من وزع الهداية على الإنسانية، يا أحفاد من نشروا لا إله إلا الله، وساروا بها مهللين ومكبرين مشرقين ومغربين: إن هذه الأمة أمة ريادة، تعطي الناس من القرآن ولا تأخذ منهم شيئاً، وتوجه الناس إلى الحق ولا تتوجه بهم.

يقول أبو الطفيل عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث – والي عمر بن الخطاب على مكة – لقي عمر – رضي الله عنه – بعسفان، فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ -لأنه كان أمير مكة من قبل عمر الخليفة – قال: تركتها لابن أبزى، قال عمر: ومن ابن أبزى هذا؟ قال: مولى يا أمير المؤمنين، قال: ثكلتك أمك، ومولى أيضاً، قال: يا أمير المؤمنين إنه عالمٌ بكتاب الله، عالمٌ بالفرائض، قال عمر – رضي الله عنه -: سمعت نبيكم   يقول: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين))35،36   من معلم، لقد جربنا أطوارنا مع التاريخ، كلما تمسكنا بالقرآن كلما انتصرنا، وكلما تركناه خذلنا، وفي القرن السابع لما ترك وتُرِكَ العمل به، وأخلي العمل به؛ جاء الرافضة، ومن وراءهم من التتر المغول، مع جنكيز خان ، فقتلوا في ثمانية أيام ثمانمائة ألف، ودمروا مساجدنا، وأحرقوا مصاحف، وقتلوا أبناءنا ونساءنا.

لما أضعنا هدى القرآن حلَّ بنا ما حلَّ حتى عن الأقصى تلهينا
وضيعتنا شعارات نرددهــا من جانب الغرب جاءتنا لتلهينا
لو عاد فينا أبو حفص لأنكرنا وقــال لستم بأحفاد الميامين

يا أمة محمد:

من يقرأ القرآن إن لم تقرؤوه، من يتدبره إن لم تتدبروه، من يعمل به إن لم تعملوا به،فهل من عودة يا شباب الأمة، ويا شيبها، يا رجالها ويا نساءها؟ فعودةً يا أمة الإسلام إلى الله، وعودةً يا أحفاد أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي، يا أحفاد فاتحي الدنيا ومعلمي الإنسانية، يا أحفاد من رفعوا رأس الإنسان حين كان على الأوثان يطبل ويزمر، ومع الشياطين يعشعش ويعيش، أضيئوا بيوتكم بالقرآن، وأحيوا قلوبكم بتدارس القرآن، عمَّر الله قلوبنا وقلوبكم بكتابه، وأحيا الله أرواحنا وأرواحكم بآياته، وردنا إليه رداً جميلاً، وهدانا إليه صراطاً مستقيماً.


1 سورة آل عمران (102).

2 سورة المجادلة (11).

3 تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة (27).

4 تذكرة السامع والمتكلم (34).

5 رواه مسلم برقم (4867).

6 رواه ابن ماجه برقم (220)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف ابن ماجه (1/296).

7 الشعراء (192-195).

8 إبراهيم (1).

9 يونس (57).

10 سورة فصلت (42).

11 سورة الجن (1).

12 سورة الحشر (21).

13 سورة آل عمران (103).

14 رواه الطبراني في المعجم الكبير برقم (8567).

15 التفسير الكبير (2/15).

16 سورة الصف (8).

17 سورة غافر (25).

18 سورة فاطر (29).

19 رواه البخاري برقم (4639).

20 سيرة ابن هشام (2/495).

21 رواه البخاري برقم (3631).

22 رواه ابن ماجه برقم (211)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/80).

23 رواه مسلم برقم (1078).

24 رواه أبو داود برقم (4203)، وقال في صحيح وضعيف سنن أبي داود حسن صحيح (343).

25 رواه مسلم برقم (1353).

26 رواه الترمذي برقم (2838)، وأبو داود برقم (1252)، وصححه الألباني في السلسة الصحيحة (5/281).

27 رواه الدارمي برقم (3382)، وذكره الألباني في السلسة الضعيفة.

28 رواه الدارمي برقم (3188)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير (7/440).

29 رواه البخاري برقم (6973).

 30رواه مسلم برقم (1337).

31 رواه مسلم برقم (1337).

32 رواه الترمذي برقم (2835).

33 الغاشية (1)

34 تفسير ابن أبي حاتم – تفسير سورة الغاشية.

35 سبق تخريجه.

36 تفسير ابن كثير (4/327).