أنت غداً بينهم
الحمد لله رب العالمين, الملك الحق المبين, الحي القيوم المتفرد بالبقاء والدوام, القائل في محكم التنزيل: {اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}1
حـي وقيوم فلا ينامُ وجلَّ أن يشبهه الأنام
باقٍ فلا يفنى ولا يبيدُ ولا يكون غير ما يريد
والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير, أعرف الخلق بربه – تبارك وتعالى -, محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وصحبته الكرام وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:
أخي الكريم: ألست في نعمة وعافية؟ أليس تتقلب في النعم صباح مساء؟ كم أنعم الله – تبارك وتعالى – عليك؟ كم تفضل بالنعم الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}2؟ أليس لكل رجل مسكن يأوي إليه, وأموال يتقلب ويتصرف بها, وزوجةً حسناء, وفرش وفير، وطعام وفير، وماء بارد؟ فهل فكرت يوماً من الأيام يا أخي أنك ستفارق كل ما تملك, وهل فكرت يوماً أنك ستخرج من بيتك مكرهاً مجرداً من الأموال, فلو أنك تنبهت وأنبت فإن هذا شيء متيقن.
فإن قلت أخي: ومن سينزع مني الأموال؟ ومن الذي يتجرأ ويزعم أنه سيخرجني من بيتي؟
قلت لك: إنه الله – تبارك وتعالى -، أما قرأت قول الله الملك الحق المبين: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}3, وقوله – عز من قائل -: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}4, ومهما طال عمرك فإن الموت طالبك ولا بد قال الشاعر:
إنما الدنيا فنــاء ليس للدنيا ثبوت
إنما الدنيا كبيـت نسجته العنكبوت
ولقد يكفيك منها أيها الطالب قوت
ولعمري عن قليـل كل من فيها يموت
أخي الكريم: هل مررت بدار لك فيها أحبة وأصحاب, ساكنة لا سراج لهم فيها, هل فكرت في زيارتهم؟ هل تفكرت في حالهم؟ هل خرجت لزيارتهم في الليل لأخذ العبرة والعظة؟ هل سألت نفسك ما حالهم؟
لو ذهب إنسان إلى تلك الدور في ظلام الليل, وجلس بينهم, وتفكر في أحوال تلك المنازل التي لا أنيس ولا جليس فيها إلا العمل الذي قُدم, وتفكر في يوم نقلته من هذه الدار, عندما ينادي أقرب قريب: "أسرعوا بدفن الحبيب, لا بقاء له بيننا فإن إكرام الميت دفنه", فيُجرد من الثياب، ويسكب عليه الماء, ثم يلف عليه الكفن، ويحنط بالحنوط, ثم يحمل على الأكتاف, الأبناء يبكون عليه, والأم تكفكف دمعها, والزوجة تصيح, والدموع على الخدود تسيل، والحزن قد خيم على الجميع
ولدتك أمك باكياً مستصرخــاً والناس حولك يضحكون سرور
فاحرص لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرور5
ثم يُحمل على الأكتاف فيصيح من الإخوة والأحباب: أرفقوا به, وهو إما أن يقول: قدموني قدموني, أو يقول: يا ويلها أين تذهبون بها كما أخبر بذلك سيد الأنام – صلى الله عليه وسلم – من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – يقول: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني, وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين يذهبون بها، يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق))6, ثم يُصلى عليه, ويحمل إلى البيت الذي انتقل إليه من بيته القديم إليه, فيفترش التراب بدلاً عن الفراش الوفير, ويصف عليه اللبن، ويهال عليه التراب, فيلقى هناك، ويتخلى عنه الأهل والأحباب, ثم يقوم من يحبه بعد الدفن فيقول: أُدعوا لأخيكم فإنه الآن يُسأل, ثم يسمع قرع نعالهم حين يولون عنه, فيتركونه وحيداً فريداً في ظلام القبر, فيأتي الملكان فيسألانه: من ربك وما دينك ومن نبيك؟ فإن كان صالحاً وُفق في الإجابة, وإن كانت الأخرى تلعثم ولم يجب, ثم تبدأ الدود بالتسابق لنهش الخدود, وتتساقط الأنامل والعيون, ويتبدل الجلد الحسن, ويصير جيفة هامدة, ويفتح له باب إلى الجنة أو باب إلى النار, ويصير عليه القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار كما ثبت عن سيد الأنام – صلى وسلم عليه الرحمن -.
أخي الكريم: أما لك فيمن مضى عبرة وعظة؟
أما ترتجي أخي تدارك العمر قبل فوات الأوان، وقبل الحسرة والندم, قبل أن تقول: رب ارجعون, فيقال لك: كلا، اسمع إلى قول الله – تعالى -: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}7, ويروى أن أحد العباد أتى إلى قبر صاحب له كان يألفه فأنشد:
ما لي مررت على القبور مسلماً قبر الحبيب فلم يرد جوابي
أحبيب ما لك لا تجيب منادياً أمللت بعدي خلة الأصحاب
فأجيب عن الميت:
قال الحبيب وكيف لي بجوابكم وأنا رهين جنادل وتراب
أكل التراب محاسني فنسيتكم وحُجبت عن أهلي وعن أصحابي
وتمزقت تلك الجلود صفائحاً يا طالما لبست رفيع ثيابي
وتساقطت تلك الثنايا لؤلؤاً ما كان أحسنها لرد جوابي
وتفصلت تلك الأنامل من يدي ما كان أحسنها لخط كتابي
فعليكموا مني السلام تقطعت عني وعنكم خلة الأصحاب
أخي الكريم: فليكن الموت نصب عينيك, وليكن لك فيمن مضى عبرة, فأكثر من ذكره, وتذكر أن الله – تبارك وتعالى – كتبه على كل إنسان, فإن ذكر الموت دواء للقلوب, وموقظ لها من الغفلة، وقد حثنا النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – على ذكره كما في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((أكثروا ذكر هادم اللذات – يعني الموت -))8, فما غفل عن ذكره إنسان إلا غوى.
نسأل الله عظيم المنة أن يمنَّ علينا بالمغفرة والرحمة, وأن يغفر لنا ولسلفنا من الأحبة والأصحاب, ولجميع المسلمين, وأن يعفو عنا وعنهم, وأن يكرم نزلهم، ويتجاوز عنهم، وأن يجعل قبورهم روضة من رياض الجنة لا حفرة من حفر النيران, ونسأله أن يعيننا على طاعته، وأن يختم لنا بالحُسنى، إنه على كل شيء قدير, والحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أكرم المرسلين محمد بن عبد الله وعلى آله الأطهار، وصحابته الكرام، وسلم تسليماً كثيراً.
1 سورة آل عمران (2).
2 سورة إبراهيم (34).
3 سورة الرحمن (26-27).
4 سورة آل عمران (185).
5 البداية والنهاية (2/50).
6 رواه البخاري برقم (1380).
7 سورة المؤمنون (99-100).
8 رواه الترمذي برقم (2307)؛ والنسائي برقم (1824)؛ وابن ماجة برقم (4258)؛ وأحمد في المسند برقم (7912)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن؛ وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة برقم (3434)؛ وقال: حسن صحيح في صحيح الترغيب والترهيب برقم (3333).