كلا للسحر والشعوذة

كلا للسحر والشعوذة

 

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضلّ له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد ألاّ إله إلاّ الله وحده لا شريك له, وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله وصفيّه وخليله, بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة, ونصح الأمّة وجاهد في سبيل ربّه حقّ الجهاد, ولم يترك شيئاً مما أُمر به إلاّ بلّغه, فتح الله به أعيناً عُمياً وآذاناً صُماً وقلوباً غُلفاً, وهدى الناس مِن الضّلالة، ونجّاهم من الجهالة, وبصّرهم من العَمى, وأخرجهم مِن الظُلمات إلى النور, وهداهم بإذن ربّه إلى صراط مستقيم, اللهم صلِّ وسلّم وبارك على عبدك ونبيّك محمد، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واهتدى بهداه.

عباد الله:

إنّ شريعة الإسلام جاءت بالقضاء على الفساد، وقطع دابر المفسدين، رجالاً كانوا أو نساءً, فسادهم عقديٌّ، أو أخلاقيٌّ, أو اجتماعيٌّ، أو اقتصادي, أو غير ذلك من أنواع الفساد، فالله لا يُحبُّ المفسدين.

والفساد طبيعة المنافقين وسمتهم وصفتهم, {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ* أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (11-12) سورة البقرة.

جاءت شريعة الإسلام آمرةً بقتل الزاني المحصن، وبقتل المرتد، الذي بدّل دينه، وفارق جماعة المسلمين، وقَتْل من قَتَل النفس التي حرّم الله إلا بالحقّ، وأمرت شريعة الإسلام كذلك بقتل المحاربين الذين يسعون في الأرض فساداًَ، يُحاربون الله ورسوله, يَقطعون السبيل, ويُخيفون الآمنين, ويَنتهبون الأموال, ويَنتهكون الأعراض، وأمرت شريعة الإسلام كذلك بقتل مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قوم لوط، وبقتل مَنْ أتى ذات محرمٍ، وأمرت شريعة الإسلام بقتل من حرّض على الفساد أو أمر به، وأمرت كذلك بقتل الساحر، الذي يُفسد عقائد المسلمين، ويزين لهم الأباطيل، ويأمرهم بالمنكر، ويُعلّقهم بغير الله، ويَجعل في عقيدتهم أنّ للكواكب تأثيراً، أو أنّ للشياطين استغلالاً بالفعل.

هذه الأصناف كلّها شريعة الإسلام أمرت بقتلهم, وقطع دابِرهم، والقضاء عليهم, لأنهم جراثيمُ مُفسدة، إذا تُركت سممت المجتمعات، وأفسدت الشعوب, وأظهرت ما أمر الله عزّ وجل بإخفائه, ومن أخطر هؤلاء جميعًا -أيها المسلمون- الساحر, الساحر الكافر الذي يَستعين بغير الله, يَستعين بالشياطين, يَستعين بالجنّ الكافر, يعتدي على كتاب الله -عزّ وجلّ- وعلى شرعه ودينه, يَحقُّ الباطل ويُبطل الحق, ويأمر بالمنكر وينهى عن المعروف, ويتعدى على الحرمات, هذا الساحر الذي يأتي هذه الموبقات شريعة الإسلام تأمر بقتله.

عباد الله:

السحر من أعظم الكبائر الموبقات، بل هو من نواقض الإسلام؛ كما قال الله -عز وجل- في كتابه الكريم: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ* وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} (102-103) سورة البقرة.

فأخبر سبحانه في هاتين الآيتين أن الشياطين يعلمون الناس السحر, وأنهم كفروا بذلك, وأن الملكين ما يعلمان من أحد حتى يخبراه أن ما يعلمانه كفر, وأنهما فتنة. وأخبر سبحانه أن متعلمي السحر يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، وأنهم ليس لهم عند الله من خلاق في الآخرة، والمعنى ليس لهم حظ ولا نصيب من الخير في الآخرة. وبين سبحانه أن السحرة يفرقون بين المرء وزوجه بهذا السحر, وأنهم لا يضرون أحداً إلا بإذن الله، والمراد بذلك إذنه الكوني القدري لا إذنه الشرعي؛ لأن جميع ما يقع في الوجود يكون بإذنه القدري ولا يقع في ملكه ما لا يريده كوناً وقدراً، وبين سبحانه أن السحر ضد الإيمان والتقوى. وبهذا كله يعلم أن السحر كفر وضلال وردة عن الإسلام إذا كان من فعله يدعي الإسلام، وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: (الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ)1.

فبين النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث الصحيح أن الشرك والسحر من السبع الموبقات أي: المهلكات، والشرك أعظمها؛ لأنه أعظم الذنوب، والسحر من جملته, ولهذا قرنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- به؛ لأن السحرة لا يتوسلون إلى السحر إلا بعبادة الشياطين والتقرب إليهم بما يحبون من الدعاء والذبح والنذر والاستعانة وغير ذلك2.

أيها المسلمون:

الساحر الذي يُفَرّق بين المرء وزوجه, ويُظهر في الأرض الفساد، ويَسير بين الناس بالعداوة والبغضاء, ويُلَبّسُ عليهم دينهم، هذا الساحر حكمه في شريعة الإسلام أنّه يُقتل، ودليل ذلك حديث بُجَالة -رحمه الله- قال: كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ, إِذْ جَاءَنَا كِتَابُ عُمَرَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ" "اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنْ الْمَجُوسِ, وَانْهَوْهُمْ عَنْ الزَّمْزَمَةِ" فَقَتَلْنَا فِي يَوْمٍ ثَلَاثَةَ سَوَاحِر"3.

عباد الله:

إن السحرة فسادهم عظيم، وشرّهم كبير، وقد بلغ الحال ببعضهم أن يتجرّأ على إشعال حرائق في بعض البيوت، وعلى انتهاب أموالٍ من بعض الناس، واجترأ بعضهم على أن يوجّه تهديداً مباشراً لأناس كرامٍ من المسلمين الطيبين، الذين ما عُلِم عنهم إلاّ الخير، والبر، والحرص على الجمعة والجماعة، ويجاهدون في الله عزّ وجل بأموالهم.

إن ضرر السحرة أعظم من ضرر الزناة, وأعظم مِن ضرر مَن يُروجون الخمور والمخدرات, أعظم مِن ضرر مَن يعملون عمل قوم لوط, فالواجب على مَن ولاّه الله أمر المسلمين أن يُنفذ الحكم الشرعي في كل مَن ثبت عليه ممارسة السحر، مِن أجل أنْ تقرّ عيون أقوام يتألمون لفساد عقائد الناس.

كم يتألم المرء حين يسمع أنّ مسلمةً تصلي لكنها تتردد على الساحر, أو أن مسلماً يصوم لكنه لا يتورع عن اللجوء إلى الكاهن، هذا دليل على الجهل وعلى خلل في المعتقد.

نسأل الله أن يردّنا إلى دينه رداً جميلاً, وأن يصرف عنّا شر كلّ ذي شرٍّ هو آخذٌ بناصيته, اللهم اصرف عنّا شرّ الأشرار، وكيد الفُجّار, وشرَّ طوارق الليل والنهار، إلاّ طارقاً يطرق بخير يا رحمن, والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة، وهو الحكيم الخبير، أحمده سبحانه وهو للحمد أهل، وأشكره وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليماً كثيراً, أما بعد:

عباد الله:

ابتعدوا عن السحرة والمشعوذين الذين يبيعون دينهم بعرض من الدنيا, واحذروا أن تهلكوا بسببهم, فالسحر والشعوذة من أعمال وطرائق الدجالين, ولا يزيد العبد إلا هلاكاً.

احذروا تعلم السحر أو المعالجة به, اجتنبوا التداوي بما يصفه الكذابون من العلاج المزعوم, واعلموا أن تصديق هؤلاء العرافين والكهان كفر بالله تعالى؛ فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)4. وهذا يشمل السؤال عن الأمراض أو علاجها التي يزعمون علاجها بطرقهم الغير مشروعة, ويشمل السؤال عن شيء من أمور الغيب ونحوها مما يدعي السحرة والمشعوذون علمهم بها وتنبئهم عنها. واعلموا عباد الله أنه لا يجوز حتى الذهاب إليهم لمجرد سؤالهم ولو لم يكن لإنسان مصدقاً لهم؛ ومن فعل كان ذلك سبباً لإعراض الله تعالى عنه؛ فقد ثبت في صحيح مسلم عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)5.

أيها الناس:

"إن النفع والضر بيد الله، وليس في استطاعة أي مخلوق أن يمنع الضر إذا أراده الله له، فالأمر كله لله وبيده، إذًا فلا حاجة إلى الالتجاء إلى غيره، في رفع ضر نزل، أو منعه قبل نزوله، ولا في إيصال الخير أو استمراره، فالله هو المدعو المستعان، المرجو لكشف الشدائد وإزالة المكروهات؛ يقول الله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (107) سورة يونس.

إن الإنسان عرضة للأمراض والأسقام، وقد أمرنا بالتداوي، والأخذ بالأسباب المشروعة في إزالة المرض وتخفيفه، ونهينا عن تعاطي الأسباب التي لم تشرع، ولم يؤذن لنا بالأخذ بها، وهي مع ذلك لا تنفع بل تضر, فتعليق التمائم والخرز على الأولاد والدواب، خوفًا من العين تصيبهم، أو المرض يفتك بهم شرك بالله، واعتماد على غيره، والرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- نهانا عن ذلك كله، وأخبر أنه لا يزيد متخذه إلا شراً ومرضاً، وأنه اعتماد على غير الله في دفع الضر، أو جلب الخير. أيّ فائدة تحصل من خيوط تربط، أو خرز يجمع, أو حلقة توضع في اليد والرجل أو حجاب، أو حروف مقطعة؟! لا خير في ذلك، ولا نفع يُرجى، بل كل ذلك شر وضلال وفساد في الفطر والعقول. عنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ –رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَقْبَلَ إِلَيْهِ رَهْطٌ, فَبَايَعَ تِسْعَةً وَأَمْسَكَ عَنْ وَاحِدٍ, فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, بَايَعْتَ تِسْعَةً وَتَرَكْتَ هَذَا؟! قَالَ: (إِنَّ عَلَيْهِ تَمِيمَةً) فَأَدْخَلَ يَدَهُ فَقَطَعَهَا فَبَايَعَهُ, وَقَالَ: (مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ)6.

ودخل حذيفة على رجل من بني عبس يعوده، فلمس عضده، فإذا فيه خيط، فقال: ما هذا؟ قال: شيء رقي لي فيه، فقطعه، وقال: لو مت وهو عليك ما صليت عليك"7.

لقد أنكر -رضى الله عنه- على من ربط خيطًا معتقدًا أنه سبب، لا أنه ينفع ويضر بنفسه، فكيف بمن يعتمد على التمائم والطلاسم والحروف المقطعة؟ فنحن مأمورون بالاعتماد على الله أولًا وقبل كل شيء ثم الأخذ بالأسباب المشروعة، فكل عمل وكل سبب لم يؤذن لنا فيه، يجب علينا تركه، والابتعاد عنه، كما يجب علينا أن نربي أولادنا تربية صالحة، وأن نبعدهم عن الأوهام والخرافات، والتعلق بغير الله، وأن نحافظ على فطرهم السليمة التي فطروا عليها، حتى لا يعتمدوا إلا على الله, ولا يلجئوا في الشدائد والملمات إلا إليه وحده، ولا يكون للدجاجلة والمشعوذين بيننا سوق نافقة, وأن نقضي على ما يفسد عقائدنا وفطرنا من الضلالات والأوهام، ونقضي على مروجيها.

اللهم أصلح أحوال المسلمين، وردهم إليك مرداً جميلاً، وأصلح من في صلاحه صلاح لأمة محمد وأهلك من في هلاكه صلاح لأمة محمد صلى الله عليه, وآله وصحبه أجمعين, والحمد لله رب العالمين.


1 رواه البخاري -6351- (21/143) ومسلم -129- (1/244).

2 تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام لـ(عبد العزيز بن عبد الله بن باز).

3 رواه أبو داود -2646- (8/282) وأحمد -1569- (4/81) وصححه الألباني في تحقيق سنن أبي داود برقم (3043).

4 رواه أحمد -9171- (19/214) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (3044).

5  رواه مسلم -4137- (11/273).

6 رواه أحمد -16781- (35/291) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (492).

7 الإبانة الكبرى لابن بطة (3/53).