بواعث التوبة وأسباب استدامتها

بواعث التوبة وأسباب استدامتها

 

الحمد لله الملك العلام، العزيز الغفار، مكور الليل على النهار، ومكور النهار على الليل، الحمد لله الذي عز فارتفع، وعلا فامتنع، وذل كل شي لعظمته وخضع، لا راد لما صنع، ولا مغير لما أراد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

فإن الله – تبارك وتعالى – خلق الإنسان وأكرمه, وأرسل إليه الرسل ليعلموه طريق الخير، ويحذرونه من الشرور والعياذ بالله، ومعلوم أن الإنسان بطبيعته ليس معصوماً يقترف الذنوب والآثام, ولذا فقد جعل الله – تبارك وتعالى – التوبة للتكفير عن الذنوب والخطايا, وأمرنا الله – تبارك وتعالى – بها.

وللتوبة أسباب تؤدي إلى استدامتها واستمرارها نذكر بعضاً منها:

أولاً: معرفة حقيقة التوبة: قال الراغب: "التوبة في الشرع: ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كمل شرائط التوبة"1؛ وقال الجرجاني: "التوبة الرجوع إلى الله بحل عقدة الإصرار عن القلب، ثم القيام بكل حقوق الرب، والتوبة النصوح هي توثيق بالعزم على ألا يعود لمثله، قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: "التوبة النصوح الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع بالبدن، والإضمار على ألا يعود"، وقيل: "التوبة في اللغة الرجوع عن الذنب، وكذلك التوب قال الله – تعالى -: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}2، وقيل: التوب جمع توبة، والتوبة في الشرع الرجوع عن الأفعال المذمومة إلى الممدوحة"3.

وبعد التعرف على التوبة فينبغي كذلك التعرف على شروط التوبة، وهي:

1- أن تكون التوبة خالصة لوجه الله – تعالى – لا رياء ولا سمعة ولا من أجل الدنيا, وذلك لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له – سبحانه وتعالى -.

2- الإقلاع عن المعصية؛ والندم على ما مضى بحيث يكون الإنسان كلما تذكر ما حصل منه من الذنوب احترق قلبه ندماً وألماً على ما فرط في حق الله – تبارك وتعالى -، فعن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((الندم توبة))4.

3- العزم على عدم العودة إليها.

4- رد المظلمة إلى أهلها إن كانت دماً أو مالاً أو عرضاً, وهذا إن كانت متعلقة بحق آدمي.

5- أن لا تبلغ الروحُ الحلقومَ وذلك لحديث ابن عمر – رضي الله عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر))5.

6- أن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها لحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه))6، وعن أبي موسى – رضي الله عنه -: عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن الله – عز وجل – يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها))7.

قال العلامة الحافظ الحكمي – رحمه الله – في شروطها:

وتقبل التوبة قبل الغرغره            كما أتي في الشرعة المطهرة

أما متى تغلق عن طالبهـا           فبطلوع الشمس من مغربه8

ثانياً: استشعار عواقب الذنوب: وذلك لأن للذنوب والمعاصي أضرار كثيرة، وضررها على القلوب كضرر السموم على الأبدان, ومن بارز الله – تبارك وتعالى – بالذنوب والمعاصي عاقبه الله بغضبه عليه، ومن غضب الله عليه فقد وقع في الخسران والعياذ بالله, ومن ذلك ما يلي:

1- وجود حجاب بين العبد والرب – تبارك وتعالى – قال الله – تعالى -: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}9.

2- قسوة في القلب، وظلمة يجدها العاصي لربه – عز وجل – قال الله – تبارك وتعالى -: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}10, وكلما ابتعد المرء عن ذكر الله – تبارك وتعالى – كلما عاش عيشة ضنكاً قال الله – تبارك وتعالى -: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}.11

3- بغض خلق الله للعصاة لحديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: "مرُّوا بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((وجبت))، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً فقال: ((وجبت))، فقال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: ما وجبت؟ قال: ((هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض))12.

4- ضيق في الرزق قال الله – تبارك وتعالى -: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ}13, وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }14, وقال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.15

5- غضب الرحمن – سبحانه -، ومن غضب عليه أكبه في النار ولا يبالي قال الله – تبارك وتعالى -: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}16, وقال – تبارك وتعالى -: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ }17، وهذا نداء إلى أصحاب الذنوب والمعاصي من الإمام ابن الجوزي – رحمه الله – يقول فيه: "يا صاحب الخطايا أين الدموع الجارية، يا أسير المعاصي ابك على الذنوب الماضية، يا مبارزاً بالقبائح أتصبر على الهاوية، يا ناسياً ذنوبه والصحف للمنسي حاوية، أسفاً لك إذا جاءك الموت وما أنبت، واحسرة لك إذا دعيت إلى التوبة فما أجبت، كيف تصنع إذا نودي بالرحيل وما تأهبت، ألست الذي بارزت بالكبائر وما راقبت18", وبعد هذا فعلى الإنسان أن يعلم أنه يعصي الله – تبارك وتعالى – الذي تفضل عليه بالنعم, فلينظر إلى عظمة من يعصي، ولا ينظر إلى صغر المعاصي والذنوب، فإنه لا صغيرة مع الإصرار.

ثالثاً: هجران سيء الخلان ومفارقة بيئة العصيان: للقرين أثر كبير على قرينه سواء كان قرين خيرٍ, أو قرين سوء – والعياذ بالله -، فكم من أناس ما شرب الخمر إلا عن طريق صديق السوء, وما وقع في المخدرات إلا عن طريق رفيق السوء, ولم يقترف الكبائر إلا حينما صادق صديق سوء، فأثر عليه عياذاً بالله مصداقاً لحديث أبي موسى – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك وكير الحداد، لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه، أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بدنك أو ثوبك، أو تجد منه ريحاً خبيثة))19, والصحبة إذا لم تكن من أجل الله – تبارك وتعالى – فستنقلب إلى عداوة قال الله – تبارك وتعالى -: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}20.

وقد أحسن الدكتور محمد بن عبد الرحمن البشر في القصيدة الزينبية حيث قال:

لا خـير في ود امـرئ متمـــلق                 حلو اللسـان وقلبه يتلهــب

يلقاك يحلف أنه بــك واثـــق                  وإذا توارى منك فهو العقـرب

يعطيك من طرف اللسان حــلاوة                  ويروغ منك كما يروغ الثعلب

ودع الكذوب فلا يكن لك صاحبـاً                  إن الكذوب لبئس خلاً يصحب

وذر الحسود ولو صفا لك مـــرة                  أبعده عن رؤياك لا يستجـلب21

فعلى المسلم أن يختار له رفيقاً يعينه على طاعة الله – تبارك وتعالى -، لا رفيقاً يسحبه إلى النار – عياذاً بالله -، فإن الصاحب ساحب، وكم عرفنا من أناس كانوا من أسوأ الناس ديناً وخُلقاً وبعد أن صحبوا أناساً صالحين حسن حالهم واستقاموا، نسأل الله لهم الثبات.

أما فيما يتعلق بمفارقة بيئة المعاصي والذنوب فيمكن أن يستدل على ذلك بحديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه -: أن نبي الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مئة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال: إنه قتل مئة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاه ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة))22.

رابعاً: قراءة القرآن وتدبره: لقراءة القرآن بحضور قلب أثر كبير في تزكية النفس، والإقبال على رب العزة والجلال, وعلى الإنسان أن يستشعر عند قراءة القرآن أنه كلام الله – تبارك وتعالى – فيقرأ وكأن الله – تبارك وتعالى – يخاطبه مباشرة قال الله – تبارك وتعالى -: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}23، وقال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}24, ويقول الله – تبارك وتعالى -: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}25، ولقد كان النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – إذا قرأ القرآن أو سمعه تأثر وبكى كما في حديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال لي النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((اقرأ عليَّ!!)) قلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: ((نعم)) فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً}26 قال: ((حسبك الآن))، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان))27, وهذا بالضبط ما ذكره الله – تعالى – من صفات المؤمنين أنهم إذا تليت عليهم آيات الله زادتهم إيماناً قال الله – تبارك وتعالى -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}28, وعليه أن يعرف ما لصاحب القرآن من الأجر العظيم، فعن أبي هريرة أو عن أبي سعيد – شك الأعمش – رضي الله عنهما قال: ((يقال لصاحب القرآن يوم القيامة اقره وارقه فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها))29, وعن أبي هريرة – رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((يجيء صاحب القرآن يوم القيامة فيقول القرآن: يا رب حلِّه، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده يا رب ارض عنه فيرضى عنه، ويقال له: اقره وارقه ويزاد بكل آية حسنة))30.

خامساً: الدعاء: فإن الدعاء من العبادات التي غفل عنها كثير من الناس خاصة في أوقات الإجابة كوقت نزول الرب – جل جلاله – في الثلث الأخير من الليل, وبين الأذان والإقامة, وعند الإفطار وغيرها من الأوقات, فعلى الإنسان أن يلح على الله – تبارك وتعالى – في الدعاء بالتوفيق والسداد, والمغفرة والرضوان, قال الله – تبارك وتعالى -: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}31, قال الله – تبارك وتعالى -: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}32, وقال: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}33, فمن الذي سأل الله ودعاه فلم يجبه, من الذي ألح عليه فحرمه, وكم رأينا أناس خرجوا لصلاة الاستسقاء، ودعوا الله، فاستجاب لهم، وأنزل عليهم الغيث مدراراً.

سادساً: معرفة عظمة الله: فإن الله – تبارك وتعالى – متصف بصفات الكمال، ومن تدبرها علم عظمة الله – تبارك وتعالى -، فهو محيط بكل شيء، وسع سمعه الأصوات، لا يخفى عليه خافية {إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء}34, غفور رحيم، وسعت رحمته كل شيء، قال الله – تبارك وتعالى -: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}35, فعلى الإنسان أن لا يقنط من رحمة الله – عز وجل -، وعليه أن يبادر بالاستغفار والتوبة إليه – سبحانه وتعالى – قال الله – تبارك وتعالى -: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }36, وهو الغني ونحن الفقراء، غني عن عباداتنا، فلو عبدناه في الليل والنهار، ولم نضيع وقتاً من الأوقات، لما زاد ذلك في ملك الله – تبارك وتعالى – شيء, ولو عصى الناس كلهم لما نقص ذلك من ملك الله – تبارك وتعالى – شيء.

عن أبي ذر – رضي الله عنه -: عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما روى عن الله – تبارك وتعالى – أنه قال: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه))37, والله – تبارك وتعالى – على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء قال الله – تعالى -: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}38, وقال: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}39, وقال الله – تعالى -: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }40, وعلى الإنسان أن يديم التفكر في ملكوت السماوات والأرض وفي خلق الله – تعالى – قال الله – تبارك وتعالى -: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}41, وقال: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}42، وقال: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ}43, وبالتفكر في عظمة الله – تعالى -، وخلقه في السماوات والأرض يزداد الإيمان, وإذا زاد الإيمان كان ذلك دافعاً إلى التوبة إليه – سبحانه وتعالى -.

سابعاً: تذكر الموت وفجأة نزوله: وبما أن الله – تعالى – كتب الموت وقدره مصيراً لكل إنسان فيجب على الإنسان أن لا يتعب نفسه في اللهو واللعب، والجري وراء حطام الدنيا التي تفنى قال الله – تبارك وتعالى -: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}44, وقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}45, والإنسان لا يدري ما يكسب في غدٍ، بل لا يعلم ما يحصل له بعد دقائق، ولا يعلم متى سينزل به هاذم اللذات، ومفرق الجماعات، وهو لا شك آت، فكم من أحبة وخلان فارقناهم ونحن كارهون, فارقناهم رغم أنوفنا, ونحن على الدرب سائرون، نسأل الله – تعالى – أن يكرمنا وإياهم برضوانه قال – تبارك وتعالى -: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}46, وما دام والأمر كذلك فلم هذه الغفلة؟ ولم هذا الإعراض؟ لماذا لا نتزود للحياة الأبدية ونعلم أن هذه الحياة الدنيا ما هي إلا لعب ولهو كما قال الله – تبارك وتعالى – في كتابه: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }47, وقال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}48, فتباً لدار هذا حالها, وتباً لإنسان غرته دنياه فنسي آخرته, تباً لمن باع داره الباقية بداره الفانية.

فلنتدارك أنفسنا، ولنستجب لنداء الله – تبارك وتعالى – عندما دعانا للتوبة جميعاً فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}49, ووعد بالقبول فقال: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}50, وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}51, وفتح باب الرجاء فقال: {لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }52، نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يوفقنا للتوبة النصوح, ونسأله أن يعفو عنا، وألا يؤاخذنا بأعمالنا إنه على كل شيء قدير؛ والحمد لله رب العالمين، وصل الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.


1 مفردات غريب القرآن للأصفهاني (1/76).

2 سورة غافر (3).

3 التعريفات (1/95).

4 رواه ابن ماجه في سننه برقم (4252)؛ وأحمد في المسند برقم (3568)، وقال شعيب الأرناؤوط: صحيح وهذا إسناد حسن؛ وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة برقم (3429)؛ وفي صحيح الترغيب والترهيب برقم (3146).

5 رواه أحمد في المسند برقم (6160)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن؛ وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (3143).

6 رواه مسلم في صحيحه برقم (2703).

7 رواه مسلم في صحيحه برقم (2759).

8 معارج القبول (1/41).

9 سورة المطففين (15).

10 سورة المائدة (13).

11 سورة طه (124).

12 رواه البخاري في صحيحه برقم (1301،2499)؛ ومسلم في صحيحه برقم (949).

13 سورة المائدة (66).

14 سورة البقرة (103).

15 سورة الأعراف (96).

16 سورة المطففين (14).

17 سورة البقرة (90).

18 التبصرة لابن الجوزى (1/17).

19 رواه البخاري في صحيحه برقم (1995،5214)؛ ومسلم في صحيحه برقم (2628).

20 سورة الزخرف (67).

22 رواه مسلم في صحيحه برقم (2766).

23 سورة النساء (82).

24 سورة محمد (24).

25 سورة القمر (17).

26 سورة النساء (41).

27 رواه البخاري في صحيحه برقم (4763)، واللفظ له؛ ومسلم في صحيحه برقم (800).

28 سورة الأنفال (2).

29 رواه أحمد في المسند برقم (10089)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وهو في حكم المرفوع فمثله لا يقال بالرأي.

30 رواه الحاكم في المستدرك برقم (2029) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه؛ وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1425).

31 سورة غافر (60).

32 سورة البقرة (186).

33 سورة النمل (62).

34 سورة آل عمران (5).

35 سورة الأعراف (156).

36 سورة الزمر (53).

37 رواه مسلم في صحيحه برقم (2577).

38 سورة المائدة (40).

39 سورة التوبة (115).

40 سورة الحج (6).

41 سورة آل عمران (191).

42 سورة الأعراف (185).

43 سورة يونس (101).

44 سورة آل عمران (185).

45 سورة الأنبياء (35).

46 سورة لقمان (34).

47 سورة الأنعام (32).

48 سورة الحديد (20).

49 سورة النور (31).

50 سورة التوبة (104).

51 سورة الشورى (25).

52 سورة الزمر (53).