الحلقات القرآنية الانطلاقة والانتشار

الحلقات القرآنية الانطلاقة والانتشار

فإن مما اختصت به هذه الأمة المحمدية إقبالها على تعلم كتاب ربها وتعليمه، وحرصها على حفظه وتحفيظه، ولذا فقد أسست لذلك الدور والمراكز والمدارس القرآنية؛ فتجد الناشئ من أبنائها يلتحق بتلك المحاضن الإيمانية، والمجالس القرآنية؛ منذ نعومة أظفاره، وباكورة صباه؛ ليتلقى فيها كلام ربه ​​​​​​​، ويدخل إلى صدره نور آياته المباركات.

ويوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة؛ تتداعى الهمم لإقامة هذه الحلقات القرآنية في أقطار شتى من الأرض هدفها: تبليغ كتاب الله ​​​​​​​، وتعليمه للصغار والكبار، للذكور والإناث من أبناء الأمة.

ولقد أخذت هذه الحلقات القرآنية منذ أول ظهور لها حتى عصرنا الحاضر – رغم الاختلاف في منهجها وطريقتها – في التمدد والتوسع على مستوى عالمنا الإسلامي بدويلاته وأقلياته، والفضل لله ​​​​​​​ أولاً وآخراً، ثم لجهود المخلصين والصادقين من أبناء الأمة الذين وهبوا أنفسهم للقرآن، وبذلوا أوقاتهم لنشر أنواره في الخافقين.

أما عن نقطة البداية لهذه الحلقات القرآنية التي من ورائها انطلقت في آفاق الدنيا، وسارت مع مسير رسالة الإسلام شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً؛ لتشمل أصقاعاً من الأرض عديدة، وأرجاء من الكون فسيحة، فحيث حل الإسلام في بلد أو قطر وجدت لهذه الحلقات القرآنية تواجداً فيه ومكاناً، فلن يتسنى لنا معرفة تلك البداية لهذا الحلقات النورانية، وتطور نشأتها الربانية؛ إلا إذا عدنا بعجلة الزمان قليلاً إلى الوراء، وجعلنا الذكرى تضرب في أعماق الزمن؛ لتوقفنا هناك على أول حلقة قرآنية تشَرّف الكون بانعقادها، تلك الحلقة التي انعقدت في منطقة رحبة من الأرض بين الأمينين: أمين أهل السماء جبريل  ، وأمين أهل الأرض محمد ، وذلك حين بزغ أول شعاع من أنوار الإسلام.

روى الشيخان عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: “أول ما بُدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلق الصبح، ثم حُبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنث (وهو التعبد) فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة – رضي الله عنها – فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلتُ: ما أنا بقارئ، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلتُ: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ۝ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ۝ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(القلم:1-3)، فرجع بها رسول الله  يرجف فؤاده 1 لتبقى بعد ذلك كلمة “اقرأ” أول كلمة افتتح بها ذلك اللقاء المبارك بين الأمينين، و”غار حراء” أول الأمكنة التي تشرف بذلك اللقاء، وما إن انفضت تلك الحلقة بين الأمينين إلا وانعقدت بعدها مباشرة حلقة أخرى بل حلقات بين النبي  وأصحابه  يأخذون فيها دور الإنصات للوحي، ويأخذ  دور التلقين لما نزل إليه من الله سبحانه، وكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم من أولى الأماكن التي تشرفت بهذا الفضل.

ثم تعددت أماكن اللقاء بعد ذلك خلال مدة نزول الوحي، وتنوعت أزمنته وأشكاله؛ لتنتقل هذه الحلقات القرآنية من مكة المكرمة إلى طيبة الطيبة، فقد كان انتشار هذا النور فيها أوسع، فأهلها هم الأنصار الذين فتحوا قلوبهم للذكر والتنزيل، وأسلموا أرواحهم فداء له.

ولقد كان أول سفير للنبي  بالقرآن الكريم إليها كما هو معلوم هو مصعب بن عمير ، فقد اختاره عليه الصلاة والسلام مبعوثاً إليها قبيل هجرته، يفقِّه أهلها في دين الله، ويعقد فيها أولى الحلقات القرآنية مع أسعد بن زرارة الخزرجي  تالياً على الناس ما معه من كتاب ربه، حتى سُمي عند أهلها بالمقرئ2.

وزاد هذا النور انتشاراً قدوم النبي  إليها، حيث تولى بنفسه مهمة الإقراء والتعليم لكتاب الله ​​​​​​​ فقد روى أنس بن مالك  قال: “أقبل أبو طلحة  يوماً فإذا النبي  قائم يُقرئ أصحاب الصفة، على بطنه فصيل من حجر؛ يقيم به صلبه من الجوع …”3.

وامتلأ مسجد رسول الله  بحلقات الإقراء، يفتتحها النبي عليه الصلاة والسلام، ويُشرف على اختيار جلة أصحابه لتوليها يقول عبادة بن الصامت  (وهو أنصاري): “كان رسول الله يُشغل، فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله  دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن، فدفع إليَّ رسول الله  رجلاً، وكان معي في البيت أعشيه عشاء أهل البيت، فكنت أقرئه القرآن…”4، وقد افتتح  حلقة للقرآن الكريم بين أهل الصُّفَّة في مسجد النبي ، وقال في ذلك: “علَّمتُ ناساً من أهل الصُّفَّة الكتابة والقرآن”5.

ويكفي دليلاً على سعة انتشار حلقات القرآن الكريم، وكثرة حفَّاظ القرآن من الصحابة في المدينة: إرسال النبي  سبعين من الصحابة كانوا يُسمَّون بالقراء إلى خارج المدينة لنشر القرآن وتعليمه، فغدر الكفار بهم وقَتلوهم  ببئر “معونة”، فقنت النبي  قبل الركوع شهراً يدعو على مَن قتلهم، ثم تركهم لمَّا جاءوا تائبين مسلمين6.

وقد ذكر أبو عبيد في كتاب “القراءات” القراء من أصحاب النبي  فعدَّ من المهاجرين والأنصار عدداً لا بأس به7، وأثبت الحافظ الذهبي في معرفة القراء أن هولاء الصحابة هم الذين بلغنا أنهم حفظوا القرآن في حياة النبي ، وأُخذ عنهم عرضاً، وعليهم دارت أسانيد قراءة الأئمة العشرة، وقد جمع القرآن الكريم غيرهم من الصحابة … ولكن لم تتصل بنا قراءتهم”8، وعن هؤلاء الصحابة وغيرهم تلقَّى بقية الصحابة القرآن الكريم فقد روى أنس بن مالك  قال: “مات النبي  ولم يجمع القرآن غير أربعة … قال: ونحن ورثناه” رواه البخاري برقم (4620).

ثم تخرج على أيدي هؤلاء الصحابة من التابعين في المدينة سيد التابعين: سعيد بن المسيب، وأبو عبد الرحمن السُلَمِي مقرئ الكوفة، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وسليمان وعطاء ابنا يسار، وكان بمكة منهم: عطاء بن أبي رباح، وطاووس، ومجاهد، وعكرمة، وابن أبي مليكة.

وهكذا تتابع الخير، وانتشر ليصل الكوفة دوي حلقات القرآن الكريم وذلك حين نزلها ابن مسعود  بأمر من عمر بن الخطاب  في السنة السابعة عشرة من الهجرة، وبنزوله الكوفة أصبح لها دوي بالقرآن الكريم كدوي النحل، وفاضت مساجدها بحلقاته المباركة إقراء وتلقيناً، ومدارسة وتفسيراً فقد روي عن علي  أنه سمع ضجة شديدة في مسجد الكوفة فقال: “ما هؤلاء؟ قالوا: قوم يقرؤون – أو يتعلمون – القرآن، قال: طوبى لهؤلاء، أما إنهم كانوا أحب الناس إلى رسول الله 9.

وكان ممن تخرج على يديه  من حفاظ التابعين: علقمة والأسود، ومسروق وعبيدة، وعمرو بن شرحبيل والربيع بن خثيم، وعمرو بن ميمون وأبو عبدلرحمن السلمي، وزر بن حبيش وسعيد بن جبير، والنخعي والشعبي وغيرهم”10.

وما زالت هذه الحلقات القرآنية تشق طريقها المشع نوراً لتفيض من سناها على بلدان كثيرة من أمثال البصرة، وبلاد الشام، ومصر واليمن.

وما زال الخير يكثر، والتركيز يشتد في أنحاء الدولة الإسلامية على العناية بتلاوة القرآن الكريم وحفظه حتى روي أنه لما ولي عمر بن عبدالعزيز  كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وردك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم، ومتى ختمت؟11 ، وحتى ظهر هناك من وصفوا بأنهم قد تجردوا لهذا الأمر، وصاروا أئمة يقتدى بهم في هذا الشأن، ويرحل إليهم من أجله.

وقد عد منهم بالمدينة وبمكة، وبالكوفة وبالبصرة، وبالشام وبمصر، “واشتهر من هؤلاء في الآفاق أئمة القراءات السبع الذين ذكرهم أبو بكر بن مجاهد، وخصَّهم بالذكر لما اشتهروا به عنده من الضبط والأمانة، وطول العمر في ملازمة القراءة، واتفاق الآراء على الأخذ عنهم وهم:

1- أبو عمرو بن العلاء شيخ الرواة: وراوياه: الدوري، والسوسي.

2- ابن كثير: وراوياه: البزي، وقنبل.

3- نافع المدني: وراوياه: قالون، وورش.

4- ابن عامر الشامي: وراوياه: هشام، وابن ذكوان.

5- عاصم الكوفي: وراوياه: شعبة، وحفص.

6- حمزة الكوفي: وراوياه: خلف، وخلاد.

7- الكسائي الكوفي: وراوياه: أبو الحارث، وحفص الدوري.12

وعن هؤلاء تلقت الأمة كتاب ربها مشافهة جيلاً بعد جيل، ودهراً بعد دهر، يتلقاه الأصاغر عن الأكابر غضاً طرياً بأسانيد عالية، وروايات سارية في حلقات تفيض بنور الوحي، ودستور السماء، لتتوسع في زماننا هذه الحلقات، وتنشأ من ورائها دور ومعاهد ومدارس تصب جام اهتمامها في تعليم كتاب الله ​​​​​​​ وتعليمه، ويخص القائمين عليها ذلك الشرف الذي نبه إليه نبينا الأعظم وهادينا الأكرم محمد  حين قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، قال: وأقرأ أبو عبدالرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج، قال: وذاك الذي أقعدني مقعدي13، فجلس في مجلس الإقراء ما يقارب أربعين سنة.

ولعلنا نرى بأم أعيننا اليوم المساجد مليئة بالحلقات عامرة، وبحَمَلَةِ القرآن غامرة، يتسامرون على تلاوة كتاب ربهم وترتيله، ويلتقون على مدارسته وتجويده، ولله المنة والفضل.

نسأل الله ​​​​​​​ أن يرزقنا العناية بالقرآن حفظاً وعلماً، وتعليماً وعملاً لعلنا نكون من أهل الله وخاصته، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين


1 رواه البخاري برقم (3)، ومسلم برقم (231).

2 صفة الصفوة لأبي الفرج (1/121)، تحقيق: محمد فاخوري ود. محمد رواس قلعه جي، دار المعرفة – بيروت، ط. الثانية (1399هـ-1979م).

3 رواه الطبراني في المعجم برقم (20693).

4 رواه أحمد برقم (22818)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن من أجل بشر بن عبد الله السلمي.

5 رواه أبو داود برقم (3418)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (2157).

6 رواه البخاري برقم (2836)، ومسلم برقم (1090).

7 الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (1/249)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، (ط1394-1974م).

8 معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار (1/42)، تحقيق: بشار عواد معروف وشعيب الأرناوؤط وصالح مهدي عباس، مؤسسة الرسالة – بيروت، ط. الأولى (1404هـ).

9 رواه البزار برقم (874).

10 الحلقات القرآنية لعبد المعطي طليمان (36 وما بعدها) بتصرف، الناشر: دار نور المكتبات (1421هـ-2000م).

11 تاريخ الأمم والرسل والملوك للطبري (4/29)، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، ط. الأولى (1407هـ).

12 الإتقان في علوم القران (1/253).

13 رواه البخاري برقم (4639).