سورة ق

 

 

 

 

سورة ق

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}(آل عمران:102)، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}(النساء:1)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً *يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}(الأحزاب:70-71) أما بعد:

فإن من أكبر المعجزات الربانية التي امتن الله بها على رسوله المصطفى  ، وجعلها منارة هداية لأمته من بعده؛ كتاب الله جل في علاه القرآن الكريم، الكتاب المبين، والنور للعالمين، الكتاب الذي أنزله الله تعالى ليعرف المسلمون ربهم، ويتعرفوا على دينهم {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}(البقرة:2)، الكتاب الذي أرسل الله به رسوله   إلى الناس أجمعين يتلو عليهم آياته ليزكيهم ويطهرهم {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}(آل عمران:164).

وهذا الكتاب فيه من الحقائق والبينات ما هو أشد وضوحاً من الشمس في وضح النهار،وفيه من العبر والعظات ما لا تقف عنده الجبال، ومن ذلك ما أنزله الله تعالى في سورة ق تلك السورة التي كان النبي  كثيراً ما يخطب بها كما جاء عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها قالت: “لقد كان تنورنا وتنور رسول الله   واحداً سنتين، أو سنة وبعض سنة، وما أخذت (ق، والقرآن المجيد) إلا عن لسان رسول الله   يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس” صحيح مسلم (873).

ولماذا سورة ق؟

يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: “قال العلماء: سبب اختيار ق أنها مشتملة على البعث والموت، والمواعظ الشديدة، والزواجر الأكيدة”1، ولما في هذه السورة من الأمور العظيمة، والمعاني المهمة؛ فإن النبي   كان يذكِّر بها أصحابه، ويعلمهم، ويزكيهم بها.

ولكن هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ كل سورة ق في كل جمعة؟ أم يقرأ بعضها؟

تساؤلات يوردها صاحب “مرقاة المصابيح” فيقول: “قال الطيبي: نقلاً عن المظهر، وتبعه ابن الملك أن المراد أول السورة لا جميعها؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقرأ جميعها في الخطب. أ.هـ، وفيه أنه لم يحفظ أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ أولها في كل جمعة، وإلا لكانت قراءتها واجبة أو سنة مؤكدة، بل الظاهر أنه كان يقرأ في كل جمعة بعضها، فحفظت الكل في الكل، والله أعلم، ثم رأيت ابن حجر قال: قوله (يقرؤها):أي كلها، وحملها على أول السورة صرف للنص عن ظاهره. أ.هـ، وفيه أن الظاهر مع الطيبي لكن نحن نصرفه عن ظاهره بحمل كلها على الخطب المتعددة، إذ الحمل على كل السورة في كل خطبة مستبعد جداً”2.

ولم يكن حرص النبي   على هذه السورة يتمثل بقراءتها في الجمعة فقط، بل كان يقرؤها في بعض المجامع الكبيرة التي  يجتمع فيه المسلمون مثل اجتماعهم يوم العيد فعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: “سألني عمر بن الخطاب رضي الله عنه عما قرأ به رسول الله   في يوم العيد؟ فقلت: بـ(اقتربت الساعة)، و(ق والقرآن المجيد)” رواه مسلم برقم (891).

ولما اشتملت عليه هذه السورة من ابتداء الخلق والبعث، والنشور والمعاد، والقيام والحساب، والجنة والنار، والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب؛ فقد كان النبي  يقرأ بها في المجامع الكبيرة كالعيد، والجمع، والله أعلم.

ولنستمع إلى تلك الآيات الكريمة التي يقول الله جل في علاه فيها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم * بسم الله الرحمن الرحيم {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ}(ق:1-5) بأحسن الكلام، وأوضح العبارات؛ يقرر الله تبارك وتعالى مبدأ البعث والنشور، ويبيِّن سبحانه وتعالى ضعف ما قاله الجاحدون في إنكار ذلك،وتخبطهم في أفكارهم وآرائهم، وبعدهم كل البعد عن تحقيق الإيمان بالعزيز الرحمن يقول الإمام السعدي رحمه الله: “يقسم تعالى بالقرآن المجيد أي: وسيع المعاني عظيمها،كثير الوجوه، كثير البركات، جزيل المبرات، والمجد: سعة الأوصاف وعظمتها، وأحق كلام يوصف بهذا هذا القرآن الذي قد احتوى على علوم الأولين والآخرين، الذي حوى من الفصاحة أكملها، ومن الألفاظ أجزلها، ومن المعاني أعمها وأحسنها، وهذا موجب لكمال اتباعه، وسرعة الانقياد له، وشكر الله على المنَّة به.

ولكن أكثر الناس لا يقدر نعم الله قدرها، ولهذا قال تعالى: (بل عجبوا) أي: المكذبون للرسول  ، (أن جاءهم منذر منهم) أي: ينذرهم ما يضرهم، ويأمرهم بما ينفعهم، وهو من جنسهم، يمكنهم التلقي عنه، ومعرفة أحواله وصدقه.

فتعجبوا من أمر لا ينبغي لهم التعجب منه، بل يتعجب من عقل من تعجب منه، (فقال الكافرون) الذين حملهم كفرهم وتكذيبهم لا نقص بذكائهم وآرائهم، (هذا شيء عجيب) أي: مستغرب، وهم في هذا الاستغراب بين أمرين:

إما صادقون في استغرابهم وتعجبهم، فهذا يدل على غاية جهلهم، وضعف عقولهم، بمنزلة المجنون الذي يستغرب كلام العاقل، وبمنزلة الجبان الذي يتعجب من لقاء الفارس للفرسان، وبمنزلة البخيل الذي يستغرب سخاء أهل السخاء، فأي ضرر يلحق من تعجب من هذه حاله؟ وهل تعجبه إلا دليل على زيادة ظلمه وجهله؟ وإما أن يكونوا متعجبين على وجه يعلمون خطأهم فيه فهذا من أعظم الظلم وأشنعه.

ثم ذكر وجه تعجبهم فقال: (أئذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد) فقاسوا قدرة من هوعلى كل شيء قدير، الكامل من كل وجه، بقدرة العبد الفقير العاجز من جميع الوجوه، وقاسوا الجاهل الذي لا علم له، بمن هو بكل شيء عليم، الذي يعلم ما تنقص الأرض من أجسادهم مدة مقامهم في برزخهم، وقد أحصى في كتابه الذي هو عنده محفوظ عن التغيير والتبديل كل ما يجري عليهم في حياتهم ومماتهم، وهذا الاستدلال بكمال علمه، وسعته التي لا يحيط بها إلا هو على قدرته على إحياء الموتى.

(بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج) أي: (بل) كلامهم الذي صدر منهم إنما هو عناد وتكذيب للحق الذي هو أعلى أنواع الصدق (لما جاءهم فهم في أمر مريج) أي: مختلط مشتبه، لا يثبتون على شيء، ولا يستقر لهم قرار، فتارة يقولون عنك: إنك ساحر، وتارة مجنون، وتارة شاعر، وكذلك جعلوا القرآن عضين، كلٌ قال فيه ما اقتضاه رأيه الفاسد، وهكذا كل من كذب بالحق فإنه في أمر مختلط، لا يدرى له وجهة ولا قرار، فترى أموره متناقضة مؤتفكة، كما أن من اتبع الحق، وصدَّق به؛ قد استقام أمره، واعتدل سبيله، وصدق فعله قيله”3.

وهذا الإنكار الذي تفوه به الكفار يكون الرد عليهم بما يرونه من حولهم، ومن فوقهم،ومن تحت أرجلهم من سماء وأرض وجبال، وما أنبت الله من زرع ونخيل وأعناب، وما خلق من الأزواج، وما أنزل من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، فأنبت بها من كل الثمرات، كل ذلك تبصرة لمن كان له قلب أو أولى السمع وهو شهيد.

{أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}(ق:6-11).

تأمل في نبات الأرض وانظــر إلى آثــار ما صنع المليك
عيـــون من لجين شاخصات بأحداق هو الذهب السبيك
على كثب الزبرجد شــاهدات بأن الله ليــس له شريك

يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله: “ولقد نبه الله هؤلاء المكذبين بالبعث على قدرته على ذلك بما يشاهدونه من هذه المخلوقات العظيمة الدالة على قدرته البالغة: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} وهي الجبال {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}(ق:6-8) ففي مد الأرض، وبناء السماء، وتزيين الأرض بالنبات البهيج، وتزيين السماء بالنجوم النيرة؛ في كل هذا كله تبصرة وذكرى يتبصر بعقله، ويتذكر بفكره؛ تمام قدرة الله تعالى وحكمته، ونبه سبحانه على قدرته على البعث بما يشاهده الناس من إنزال المطر من السماء، وإخراج النبات به من البساتين والحبوب:{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}(ق:10-11)، ثم حذَّر الله هؤلاء المكذبين مما فعله بالمكذبين السابقين الذين حق عليهم وعيد الله بعذابه ونكاله بهم، وقرر الله سبحانه وتعالى قدرته على إعادة الخلق مرة ثانية بقدرته على الخلق الأول، فتقرر بهذا قدرته تعالى على البعث بالأدلة العقلية والحسية”4.

فواعجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آيــة تـدل على أنه الواحـد
ولله في كل تحريــكة وتسكيـنة أبداً شـاهد

وكل من كذب الرسل، وكفر بما جاءت به الأنبياء؛ فسيكون مصيره كمصير الذين من قبله ممن تخبطوا في سبل الضلال، وتاهوا في سكك الضياع، وكل من كذب برسوله الذي أرسل فقد كذب بكل الرسل التي أرسلها الله تعالى إلى العباد:{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ}(ق:12-14) يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: “يقول تعالى متهدداً لكفار قريش بما أحله بأشباههم ونظرائهم وأمثالهم من المكذبين قبلهم من النقمات والعذاب الأليم في الدنيا كقوم نوح وما عذبهم الله به من الغرق العام لجميع أهل الأرض، وأصحاب الرس…(وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط) وهم أمته الذين بعث إليهم من أهل سدوم، ومعاملتها من الغور، وكيف خسف الله بهم الأرض، وأحال أرضهم بحيرة منتنة خبيثة؛ بكفرهم وطغيانهم، ومخالفتهم الحق.

(وأصحاب الأيكة) وهم قوم شعيب عليه السلام، (وقوم تبع) وهو اليماني…(كل كذب الرسل) أي: كل من هذه الأمم وهؤلاء القرون كذب رسوله، ومن كذب رسولاً فكأنما كذب جميع الرسل كقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}(الشعراء:105)، وإنما جاءهم رسول واحد فهم في نفس الأمر لو جاءهم جميع الرسل كذبوهم (فحق وعيد) أي: فحق عليهم ما أوعدهم الله على التكذيب من العذاب والنكال، فليحذر المخاطبون أن يصيبهم ما أصابهم فإنهم قد كذبوا رسولهم كما كذب أولئك”5.

أولم يتأمل كل من أنكر البعث والنشور أن الذي أنشأ الخلق أول مرة من العدم قادر على أن يعيده كما بدأه، بلى إنه هو الخلاق العليم يقول تعالى في هذه السورة المباركة: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} (ق:15)، وقد قال الله في موضع آخر: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}(يس:78-79) يقول البيضاوي رحمه الله: “أي أفعجزنا عن الإبداء حتى نعجز عن الإعادة، من عيي بالأمر إذا لم يهتد لوجه عمله والهمزة فيه للإنكار، (بل هم في لبس من خلق جديد) أي هم لا ينكرون قدرتنا على الخلق الأول، بل هم في خلط وشبهة في خلق مستأنف لما فيه من مخالفة العادة، وتنكير الخلق الجديد لتعظيم شأنه، والإشعار بأنه على وجه غير متعارف ولا معتاد”6.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

يذكر جل وعلا ما هو متصل بالبعث والنشور بعد أن بين شيئاً مما يثبت به ذكر ما تفزع منه القلوب، وتخاف منه النفوس، وتشخص عنده الأبصار، وترتجف بين يديه الأطراف؛ إنه الموت بما فيه من السكرات والآلام.

يذكر يوم النشور، والحساب، والتغابن، يوم تعرض الخلائق لا يخفى على الله منها شيء، يوم الفزع الأكبر.

يذكر آخر مستقر للإنسان إما إلى الجنة وإما إلى النار، تفاصيل تؤكد حقيقة البعث والنشور.

وهكذا يذكر في هذه السورة العظيمة كل شيء من يوم أن خُلق هذا الإنسان إلى أن مات إلى أن يبعثه الله فيدخله الجنة أو النار {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}(ق:16-19).

والله الخالق عالم بما خلق: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}(الملك:14)، فكل ما يدور في خاطر ابن آدم فإن الله يعلمه، بل هو أقرب إلى الإنسان من حبل وريد الدم الذي يجري في جسده، وكل حركاته وسكناته، وكل ألفاظه مقيدة عليه؛ لا يفوت الله تعالى منها شيء يقول العلامة السعدي رحمه الله: “يخبر تعالى أنه المتفرد بخلق جنس الإنسان ذكورهم وإناثهم، وأنه يعلم أحواله، وما يسره، ويوسوس في صدره، وأنه أقرب إليه من حبل الوريد الذي هو أقرب شيء إلى الإنسان، وهو العِرقُ المكتنف لثغرة النحر، وهذا مما يدعو الإنسان إلى مراقبة خالقه المطلع على ضميره وباطنه، القريب منه في جميع أحواله، فيستحي منه أن يراه حيث نهاه، أو يفقده حيث أمره، وكذلك ينبغي له أن يجعل الملائكة الكرام الكاتبين منه على بال، فيجلهم ويوقرهم، ويحذر أن يفعل أو يقول ما يكتب عنه، مما لا يرضي رب العالمين، ولهذا قال: (إذ يتلقى المتلقيان) أي: يتلقيان عن العبد أعماله كلها، واحد (عن اليمين) يكتب الحسنات والآخر (عن الشمال) يكتب السيئات، وكل منهما (قعيد) بذلك، متهيئ لعمله الذي أُعدَّ له، ملازم له.

(ما يلفظ من قول) خير أو شر (إلا لديه رقيب عتيد) أي: مراقب له، حاضر لحاله كما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}(الإنفطار:10-12)”7.

وفي لحظة واحدة، في وقت لا يعلمه إلا الله تأتي ساعة الفراق، ساعة الرحيل، ساعة الخروج من هذه الدنيا، ولا ينفع حينها نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(المؤمنون:99-100).

وهل تنتهي الحياة بالموت؟ أو هل تنقضي بالخروج من الحياة الدنيا؟ لا بل لابد من يوم يجد فيه العامل أجر عمله: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً}(النساء:40).

لابد من يوم يقتص فيه للمظلوم من الظالم، لابد من يوم يلتقي فيه المؤمنون بحبيبهم   ومن معه من صحابته الكرام، لابد من يوم يرى فيه الصادقون صدقهم قد ثقلت موازين حسناتهم، ويوم ينال الصابرون أجر صبرهم على الطاعات، وترك المحرمات، لابد من يوم يحصل فيه المتقون على أعظم نعيم وهو النظر إلى وجه الله الكريم.

لابد من يوم ينظر أهل المعاصي والذنوب إلى سوء ما جرَّتهم إليه شهواتهم، وبئس ما قادتهم إليه نفوسهم، فيندم من اقترف السيئات ولم يبادر بالتوبة والرجوع إلى رب الأرض والسماوات، يندم من انجر وراء الرفقة السيئة ولم يسارع إلى الفرار إلى الصالحين الذين يدلونه على رب العالمين، يندم من ظلم الناس وظلم نفسه فمشى مكباً على وجهه حتى أورده فعله ناراً فاغرة فاها تقول هل من مزيد{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}(ق:20-30).

جاء في معالم التنزيل: “{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} يعني نفخة البعث، {ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} أي: ذلك اليوم يوم الوعيد الذي وعده الله للكفار أن يعذبهم فيه.

{وَجَاءَتْ}ذلك اليوم {كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ}يسوقها إلى المحشر {وَشَهِيدٌ} يشهد عليها بما عملت.

{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا}اليوم في الدنيا، {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} الذي كان في الدنيا على قلبك وسمعك وبصرك، {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} نافذ تبصر ما كنت تنكر في الدنيا”8.

وهنا يذكر الله تعالى حال من أسرف على نفسه في المعاصي والذنوب، وما آل إليه من مصير مزعج، ومكان مخيف، ونهاية مؤلمة، ويقارن ذلك بما صار إليه أهل الإيمان والطاعات والقربات، أهل الخوف من الله؛ ممن علموا أن الله أقرب إليهم من حبل الوريد، وأنهم ما يتلفظون بحرف، ولا يهمون بأمر؛ إلا والله يعلمه.

ويأتي المقطع الأخير من هذه السورة الكريمة فيذكِّر الله تعالى فيه بحال من هلك ممن أعرض عن دعوة الرسل، وأن في هلاكهم عبرة للمعتبرين، وأنه لابد للداعية أن يصبر على هذا الإعراض، وما قد يلاقي من القول البذيء، فلقد سُب فاطر السماوات والأرض، ومحيي الموتى، وعند الله تجتمع الخصوم، وما هذه السورة وغيرها من السور إلا تخويف لمن يخاف وعيد.

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}(ق:36-45).

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، والحمد لله رب العالمين.


 


1 صحيح مسلم بشرح النووي (6/161) لأبي زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي، دار إحياء التراث العربي – بيروت 1392هـ، ط. الثانية.

2 مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (3/454) لعلي بن سلطان محمد القاري، تحقيق: جمال عيتاني، دار الكتب العلمية – لبنان/ بيروت 1422هـ – 2001م، ط. الأولى.

3 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/803) لعبد الرحمن بن ناصر بن السعدي، المحقق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة، ط. الأولى 1420هـ -2000م.

4 الضياء اللامع من الخطب الجوامع لمحمد بن صالح العثيمين (2/346-347) ط. الأولى، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 1408هـ – 1988م.

5 تفسير القرآن العظيم (7/397) لأبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، المحقق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط. الثانية1420هـ – 1999م.

6 تفسير البيضاوي (5/226)، دار الفكر – بيروت.

7 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/805).

8 معالم التنزيل (7/360) لمحيي السنة أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، حققه وخرج أحاديثه محمد عبد الله النمر وعثمان جمعة ضميرية وسليمان مسلم الحرش، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط. الرابعة 1417هـ – 1997م.