إيمان لا يرتد ونعيم لا ينفد

إيمان لا يرتد ونعيم لا ينفد

إيمان لا يرتد ونعيم لا ينفد

الحمد الله الذي هدانا للإسلام، وبصرنا بالحلال والحرام، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة على الدوام، وأفضل الصلاة وأتم السلام على نبينا محمد خير الأنام، وعلى آله وصحبه الكرام، وعلى التابعين لهم بإحسان ما دامت الليالي والأيام.. أما بعد:

فإن أعظم ما يوفق له الإنسان في الدنيا:الإيمان الصادق والعمل الصالح، فهما مصدر السعادة الحقيقية والحياة الطيبة التي أخبر عنها ربنا سبحانه في كتابه فقال:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (97) سورة النحل.

وقال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} (40) سورة غافر.

وأعظم ما يجده الإنسان في الآخرة هو النعيم المقيم (في جنات ونَهَر*في مقعد صدق عند مليك مقتدر)، وهو النعيم الذي لا ينفد، والفضل الذي لا يحصى ولا يعد، والعيش الأبدي السرمد، وأعظم ذلك لذة النظر إلى وجه الله الكريم الرحيم.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه -عز وجل- النعيم الذي لا ينفد.. كما جاء في الحديث الشريف عن قيس بن عباد قال:

صلى عمار بن ياسر بالقوم صلاة أخفَّها فكأنهم أنكروها، فقال: ألم أتم الركوع والسجود؟ قالوا: بلى، قال: أما إني دعوت فيها بدعاء كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به:

(اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي، وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْإِخْلَاصِ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بِالْقَضَاءِ، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَفِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِين).1

وكان يسأله الإيمان الذي لا يرتد وثبات القلب على دين الله سبحانه كما جاء من حديث أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ)2.

أخي المسلم: إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من هذا الدعاء الذي يسأل الله فيه الثبات على دينه، فما بالك بنا نحن؟ ألسنا أولى بالخوف على أنفسنا من الزيغ والضلال وأن نحمي أنفسنا بالتعلق بالله تعالى والاعتصام بحبله؟ لا شك أن ذلك أولى وأحرى.

وهذا ابن مسعود رضي الله عنه يسأل الله تعالى الإيمان الذي لا يرتد –أي الإيمان المستمر الدائم الذي لا يزول- ويسأله النعيم الذي لا ينفد، وكان ذلك في صلاته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر.. كما ثبت ذلك من حديث زر بن حُبيش عن ابن مسعود قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وهو بين أبي بكر وعمر وإذا ابن مسعود يصلي، وإذا هو يقرأ النساء، فانتهى إلى رأس المائة فجعل ابن مسعود يدعو وهو قائم يصلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اسأل تعطه، اسأل تعطه) ثم قال: (من سره أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه بقراءة بن أم عبد) فلما أصبح غدا إليه أبو بكر رضي الله عنه ليبشره وقال له: ما سألت الله البارحة؟ قال: قلت: “اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد ونعيماً لا ينفد ومرافقة محمد في أعلى جنة الخلد” ثم جاء عمر رضي الله عنه فقيل له: إن أبا بكر قد سبقك، قال: يرحم الله أبا بكر ما سبقته إلى خير قط إلا سبقني إليه.3

والذي يمكن أن نخلص إليه: هو أن الحياة الطيبة لا تحصل في الدنيا إلا بالإيمان الذي لا يرتد ولا يتراجع صاحبه عن دينه وعقيدته ولا يضل عن سبيل الله حتى يأتيه اليقين، وكذلك بالعمل الصالح الذي هو قرة عين المؤمنين.. وفي الآخرة لا يمكن أن تكون راحة وقرار عين إلا بنعيم لا ينفد ولا يبيد، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته يسألون الله تعالى خيري الدنيا والآخرة.. فينبغي للمسلم أن يكثر من سؤال الله بما ورد من الأدعية السابقة، ويجمع ذلك كله دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يكثر الدعاء به وهو ما جاء في قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (201) سورة البقرة.

نسأل الله تعالى إيماناً لا يرتد ونعيماً لا ينفد وقرة عين لا تنقطع، ونسأله لذة النظر إلى وجهه والشوق إلى لقائه في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


 


1 رواه النسائي في سننه، وابن أبي شيبة في مصنفه، وعبد الرزاق الصنعاني في مصنفه، وابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في تحقيق الطحاوية (1/ 101).

2 رواه الترمذي وأحمد، وغيرهم، وهو حديث صحيح، صححه الألباني وغيره.

3 رواه الإمام أحمد، والنسائي والحاكم، وغيرهم، وقد حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2301).