حِكم وأسرار الصيام

حِكم وأسرار الصيام

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

أخي الكريم:

إن الله-تعالى-شرع الصيام لفوائد جمة، وأسرار عظيمة تضاءلت دونها أقلام البلغاء من الكتاب، وأفكار العلماء والحكماء من أولي الألباب، لقد أودع الله-تعالى-في الصيام من الحكم, والأسرار, والمصالح الدنيوية والأخروية ما هو فوق تصورات البشر، ورتب عليه-تعالى-من جزيل الثواب وعظيم الجزاء مالو تصورته نفسٌ صائمة لطارت به فرحاً، وتمنت أن تكون السنة كلها رمضان لتبقى دوماً بهذا الروح والريحان، والمتكلم في هذا الموضوع إنما يتكلم بقدر ما توصل إليه الفكر، واهتدى العقل إليه.

فمن هذا الحكم، والغايات ما يلي:

1-     أن الصيام وسيلة لتحقيق التقوى والتي تعد من أبرز حكم الصوم قال-تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:183). فالصوم وسيلة عظمى لتقواه-تعالى-، وتقواه- سبحانه-جماع خير الدنيا والآخرة، يقول-صلى الله عليه وسلم-: (كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف) قال الله-تعالى-: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)(1). يقول الرازي: " إن الصوم يورث التقوى لما فيه من انكسار الشهوة وانقماع الهوى؛ فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويهون لذات الدنيا ورياستها، وذلك؛ لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج، فمن أكثر منه هان عليه أمر هذين، وخفت عليه مؤونتهما، فكان ذلك رادعاً له عن ارتكاب المحارم والفواحش، ومهوناً عليه أمر الرياسة في الدنيا، وذلك جامع لأسباب التقوى…)(2). فحقيقة الصيام إذن أنه مدرسة سلوكية تُربي النفوسَ على التقوى وعلى طاعة الله-سبحانه-، فإذا لم يحصل للصائم شيء من ذلك لم يُبَال اللهُ بصومه.

2-     أن الصيام وسيلة لتربية الأمة تربية حازمة، فما الصائم إلا رجل يمارس في نفسه التغلب على اللذة المباحة حتى يستطيع التغلب على اللذة الآثمة، ويتعهد نفسه بالامتناع عن المأكل والمشرب مختاراً، حتى يستطيع الصبر على الجوع والعطش حين يضطر إلى ذلك اضطراراً.

3-     أن الصيام وسيلة لتربية الأمة تربية جماعية: إحياء لمعنى: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد)(3), فتشعر الأمة في رمضان بالجسد الواحد، يجوع الناس فيه جوعاً واحداً، ويعطشون عطشاً واحداً، ثم يشبعون شبعاً واحداً ورياً واحداً.. لا يمتاز بطن عن بطن، ولا فم على فم…وبذلك يشعر بالجوع من لم تكن ثروته تسمح له بالجوع قبل رمضان، ويحس من الآم الفقر والحرمان من كان الغنى والترف والسرف يمنعه أن يحس به..ولعمر الله هل هناك في الدنيا تجسيد لمعنى الوحدة، يستوى الناس بها جميعاً في الحرمان ثم الشبع كوحدة الصيام في شهر رمضان..؟.

    إن ذلك الجوَّ الإيمانيَّ الذي يعيشه الصائمون في رمضان من شأنه أن يوثق العلاقات بين قلوبهم, ويشيع فيهم المحبة والإخاء وروح التعاون؛ إذ أن المؤمن يصوم مع إخوانه في جو جماعي متآلف، فالجميع يصومون في وقت واحد ويفطرون في وقت واحد، ويستشعر كل فرد في المجتمع ما يستشعره الآخرون من الناحية الوجدانية؛ لأن الصائم يرتاح نفسياً إلى من هو في مثل حاله، وينجذب إليه بالعطف والمودة لاتحاد غايتهما ووحدة هدفهما في ابتغاء مرضاة الله وغفرانه… فترى الصائمين في هذا الشهر متعاطفين متحابين، يقصدون المساجد للصلاة وذكر الله وقراءة القرآن، وهم غالباً يتزاورون ويتسامرون بعد صلاة العشاء والتراويح جماعة. وهم بذلك يتفقّدون من تخلَّف منهم عن حضور الجماعة، فإن كان مريضاً واسَوْهُ، وإن كان في ضائقة تعاونوا لدفعها عنه.

فأسرار الصيام الاجتماعية أنه تذكير عملي بجوع الجائعين، وبؤس البائسين تذكير بغير خطبة بليغة ولا لسان فصيح، لأن الذي نبت في أحضان النعمة ولم يعرف طعم الجوع، ولم يذق مرارة العطش، لعله يظن أن الناس كلهم مثله, وأنه مادام يجد فالناس يجدون ومادام يطعم لحم طير مما يشتهي وفاكهة مما يتخير فلن يحرم الناس الخبز والطعام، ولكن الصوم يجعل الغني يشعر أن هناك معدات خاوية, وبطوناً خالية وأحشاء لا تجد ما يسد الرمق ويطفئ الحرق، فحري بإنسانية الإنسان وإسلام المسلم، وإيمان المؤمن أن يرق قلبه, وأن يعطى المحتاجين وأن يمد يده بالعون إلى المساكين، فإن الله رحيم, وإنما يرحم من عباده الرحماء, فكما يكون الإنسان لعباد الله يكن الله له.

4-     أن الصيام يعلمنا تنظيم معاشنا، وتوحيد أمورنا نحن المسلمين، شرعه الله ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وليُضفي عليكم تعالى بسبب الصوم من أفضاله وإنعامه، شرعه ليكون حصناً منيعاً لأوليائه، وجُنة يتقي به المسلم شر عدوه اللدود الشيطان الرجيم، شرعه ليضيق الخناق على الشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم فلا يدعه ينفذ إليه بحال من الأحوال، مصداق ذلك حديث صفية زوج النبي-صلى الله عليه وسلم-: أن رسول الله قال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)(4)، إذا الدم يتولد من الطعام والشراب، فإذا أكل المرء وشرب اتسعت مجاري الشيطان وقويت دواعي الشهوة(5).

5-     أن الصيام مدرسة إيمانية عملية تزكي النفس وتمدها بطاقة نفسية كبيرة, وتقوي صلة الصائم بربه، وتصفي روحه بشكل يجعله طَيِّعاً للخيرـ مُبتعداً عن الشر؛ ذلك أن الإنسان عندما ينوي الصوم يعرف أنه يقبل على الله بهذه الطاعة التي هي سر خفي بينه وبين مولاه، فيظل نهاره خاشعاً موصول القلب بالله-سبحانه وتعالى-, ويُقبل بنفس واعية على تلمس أسباب الخير المفضية إلى رضاه وثوابه الجزيل-سبحانه-.

6-     أن الصيام يجعل صاحبه يلتزم العفة في كل شيء؛ لأن صومه يُذكّره دائماً برقابة الله عليه، ويدفعه للإقبال على تنفيذ أوامره والابتعاد عما نهى عنه.  فقد "فرض الله الصيام ليتحرر الإنسان من سلطان غرائزه، وينطلق من سجن جسده، ويتغلب على نزعات شهوته، ويتحكم في مظاهر حيوانيته، ويتشبه بالملائكة"(6).

7-     أن الصيام كاسر لشهوات النفس، وتقويمٌ لمواضع الاعوجاج في القلب، وتعويد على الصبر، وتحمل المشقة، وشعور بآلام الغير، وتخفيفٌ للضغط المادي على حياة الإنسان، وعبادة خالصة تقود إلى تربية ربانية رفيعة تستصغر البهيمية وتحول بين الإنسان وبين الاستسلام الذليل إليها"(7).

8-     أن الصيام يُعلم الصبر وتحمل المشاق، ولذلك فقد نسبه الرسول-عليه السلام- إلى الصبر فِعلاً فقال: (صوم شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر، يُذهبن وحر الصدر)(8). وقد كان الصوم باعتباره محكّا للتمرس على الصبر، رُكناً من تعاليم الإسلام الأساسية؛ لأن الإسلام دين جهاد وكفاح متواصل. وأولُ عدة للجهاد هو الصبر والإرادة القوية، فإن لم يجاهد نفسه هيهات أن يجاهد عدواً، ومن لم ينتصر على نفسه وشهواتها هيهات أن ينتصر على عدوه، ومن لم يصبر على جوع يوم هيهات أن يصبر على فراق أهل ووطن من أجل هدف كبير. والصوم –بما فيه من صبر وفطام للنفوس- من أبرز وسائل الإسلام في إعداد المؤمن الصابر المرابط المجاهد، الذي يتحمل الشظف والجوع والحرمان, ويرحب بالشدة والخشونة وقسوة العيش ما دام ذلك في سبيل الله(9).

9-     أن من حِكم الصيام أن يعرف المرء مقدار نعم الله عليه فالإنسان إذا تكررت عليه النعم، قل شعوره بها، فالنعم لا تعرف إلا بفقدانها فالحلو لا تعرف قيمته إلا إذا ذقت المر، والنهار لا تعرف قيمته إلا ذا جن الليل وبضدها تتميز الأشياء، ففي الصوم معرفة لقيمة الطعام والشراب والشبع والري، ولا يعرف ذلك إلا إذا ذاق الجسم مرارة العطش ومرارة الجوع.

اللهم وفقنا لصيام رمضان وقيامه إيماناً واحتساباً، واجعلنا ممن قبلت صيامه وغفرت له ذنوبه, ومُنّ علينا بالعتق من النيران والفوز بالجنان، واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين،،،


1 – البخاري (5583)، ومسلم(2/806)(1151).

2 – راجع: مفاتيح الغيب(5/70).

3 – صحيح مسلم (4/1999)(2586).

4 – البخاري(6750).

5 – راجع كتبي: رمضان بين الواقع والمأمول: بتصرف (3-8)، عبد الله الهبدان.

6 – العبادة في الإسلام ص(274).

7 – منهج التغيير الاجتماعي في الإسلام ص(104).

8 – أحمد في مسنده(5/363). وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (3804).

9 – راجع: العبادة في الإسلام ص(276).